IMLebanon

كليّة العلوم تشقّ طريق العودة بصعوبة

 

كلّ العيون كانت مصوّبة على «أمّ كليّات» الجامعة اللبنانية، التي تكاد تستقطب العدد الأكبر من الطلاب في الجامعة، لمواكبة انطلاقة العام الدراسي فيها. جولة «الأخبار» على كلية العلوم في الحدث، التي يمكن أن تختصر في مشاكلها معظم مشاكل كليّات «اللبنانية»، لم تكن وردية تماماً. التدريس انطلق، وحماسة الطلاب واضحة، إلا أنّ هذا لا يلغي أن 40 أستاذاً غادروا الكلية، فيما تخلو المختبرات البحثية شيئاً فشيئاً من موادّها الضرورية للتعليم، في ظلّ سياسة تقشف تطاول حتى عمّال النظافة، ووسائل التحرير الأساسية من أقلام وأوراق

 

تثير انطلاقة العام الدراسي في كليّة العلوم حيويةً خاصةً في مجمع الحدث الجامعي، إذ يجتمع في مبناها الضخم 7000 طالبة وطالب، يحرّكون كلّ شيء في المنطقة من حولهم، من سيارات وباصات النقل إلى المحال التجارية والمكتبات والمطاعم، وصولاً إلى الشقق والغرف الشاغرة التي تستعدّ لاستقبال روّادها بعد غياب. بين المحاضرة وأختها، تتحرّك جموع الطلاب ذهاباً وإياباً على درج طويل يربط قاعات السّنوات الأولى بطابق الإدارة، وبينهما أربعة طوابق تتوزع الصفوف فيها يَمنة ويَسرة. وفي تلك القاعات أو المدرّجات علامات العودة الأبرز، حيث تغصّ بالطلاب لدرجة الاختناق، في المدرّج «أ» الأكبر بين ثمانية، والذي يتّسع لـ450 طالباً، يجلس الطلاب على أدراجه بعدما امتلأت المقاعد، ويزاحم الواقفون منهم الأستاذ في المساحة المخصّصة له متسبّبين بخلق بيئة حارّة وخانقة لغياب التكييف.

 

في الطريق صعوداً نحو الإدارة، يعبّر عدد من أساتذة الكليّة الذين التقتهم «الأخبار» عن استغرابهم «التغطية الإعلامية لأمر عادي»، رافضين أيّ كلام مع الإعلام في حال أراد نقل صورة «ممكيجة» لا تمثّل الواقع في الكليّة وفي الجامعة اللبنانية. يؤكدون أن زيارة وزير التربية، مع رئيس الجامعة، لتفقد انطلاقة العام الدراسي يوم الأربعاء الماضي، خلت من أيّ حماسة بين الأساتذة أو الطلاب، وسط توعّد لبعض الأساتذة بعدم السّماح لأحد من الزائرين بمقاطعة صف تدريسي لـ«أخذ الصور وتوزيع الابتسامات، فيما مرافق الجامعة المعطلة غائبة عن عدسات التصوير». ويشير أحدهم إلى مسايرته «شباب الصيانة التابعين لشركة دنش (المعتكفة عن العمل) بغية إصلاح مقبس الكهرباء المعطل… لولا المونة عليهم ما مشي الحال».

 

الموظفون والطلاب

في مكاتب التسجيل والإدارة يتزاحم الطلاب لاستكمال معاملاتهم الإدارية، وسط ضياع يخفّف منه وجود طلاب يعملون تطوّعاً تحت راية «مجلس طلاب الفرع»، يقومون بتوزيع طلبات التسجيل، وإرشاد الطلاب وأهاليهم نحو المكاتب المناسبة لاستكمال المعاملة.

مضاعفة بدل التسجيل 4 مرات في مرحلة الإجازة ليصبح مليون ليرة، و3 مرات لمرحلة الماجستير، لم تؤثر على أعداد طالبي التسجيل بشكل عام، إلا أنّها دفعت عدداً منهم لتأجيل الدفع عدة مرّات بغية تأمين المبلغ المطلوب، مع مبادرات فردية لجمع المساعدات من الراغبين. ويسجّل هنا تململ بين الطلاب القادمين من مناطق بعيدة لإنجاز معاملة، ليفاجَؤوا بعدم وجود الموظف المعني بتسيير أمورهم، ما يضطرهم للعودة، كحال طالبة قادمة من عكار سيكلفها غياب الموظف 400 ألف ليرة بدل مواصلات ذهاباً وإياباً لتحصيل ورقة العلامات. إلا أنّ أكثر ما يثير قلق الطلاب هو بعض المسابقات غير المصحّحة والتي تنتظر عودة أساتذتها من الخارج، أو العودة عن انقطاع غير معلن عن التعليم لتصحيحها.

 

تدابير استثنائية

يختار مدير الكليّة الدكتور ياسر مهنا أن يتحدّث عن واقع الكلية هذا العام خلال جولة يرافقنا بها بين قاعاتها. يشكو من ظلم كبير تتعرّض له الجامعة على يد بعض أهلها، «سافر ما يقارب الـ40 أستاذاً، بعض الصفوف لا تزال من دون أساتذة، فيما ترك بعض الزملاء المهاجرين عقودهم سارية!». يتفهّم مهنا قرار السفر «فالوضع الاقتصادي خانق، والأساتذة يفقدون مداخيلهم، لكن هذه الهجرة تؤدّي إلى قيام الكليّة على أكتاف عدد قليل من الزملاء، الذين يتحملون اليوم أعباء فوق طاقاتهم بأخذ أنصبة تعليمية تصل إلى 400 ساعة سنوياً، فيما نصاب الأستاذ المتفرّغ في الجامعة لا يتخطى الـ 250 ساعة». هذه الإجراءات الاستثنائية ستُستكمل بـ«دمج بعض الصفوف مع بعضها، فحيث أمكن سيدرس طلاب الفرنسي مع الإنكليزي».

 

يؤكّد مهنا أن «لا عودة إلى التعليم عن بعد فقد تراجع مستوى الطلاب بشكل ملحوظ وقد أثبتت التجربة عدم جديّة هذا النوع من التعليم».

 

نحو كلية نظرية؟

ما إن تطأ قدمنا الطابق الرابع في الكليّة، حيث مقرّ قسم الكيمياء، والعدد الأكبر من المختبرات التطبيقية، حتى نسمع عبارة «لا مختبرات أبحاث هذه السّنة»، يطلقها مسؤول مختبر بحثي، مبدياً تخوّفه من «تحوّل الكليّة إلى ثانوية ذات مستوى متقدّم فقط».

تظهر بوادر الأزمة أكثر في الممرّات التي كانت تعجّ في مثل هذا الوقت من السّنة بالمواد الآتية إلى المختبرات. يذكّر الدكتور حسام عبيد، رئيس قسم الكيمياء بـ«طبيعة الكليّة التطبيقية، كل مادة نظرية يقابلها مختبر، إلا أنّ مخزون المختبرات من المواد يتقلّص… حتى الغاز الأساسي للتسخين وتشغيل بعض المختبرات غير موجود، فسعر العبوة ارتفع من 30 ألف ليرة إلى 500 ألف، واستهلاكنا منها كبير»، لكنه يعود ويطمئن إلى أنّ «المادة ستتأمّن خلال الأيام المقبلة». لكنّ الموازنة «غير الكافية»، تفرض شراء النواقص بـ«الحبة والمينيموم، وفقط للفصل الأول دون الثاني». ولتخفيف الاستهلاك خلال حصص المختبر «سنقوم بتخفيف تركيز المواد وتقسيم الكمّيات للتوفير» بحسب عبيد، الذي يؤكد أنّ «الأمر لن يؤدي إلى التخفيف من جودة التجربة، أو عدم وصول الكفاية العلمية للطلاب». بالإضافة، تدمج إدارة القسم مجموعات الطلاب رافعةً العدد في كلّ منها إلى 20 طالباً، بعدما كان 10، وذلك بسبب تناقص أعداد المدرّبين الأساسيين في تشغيل المختبرات بعد ترك عدد منهم العمل لأسباب اقتصادية، أو تقاعد المسنّين منهم.

 

توجّه نحو دمج الصفوف لتغطية هجرة الأساتذة وتقشّف في تأمين حاجات المختبرات

 

 

أما المشكلة الكبرى، فتتمثل بالأدوات المخبرية من زجاجيات وآلات وغيرها، وهي أغلى ثمناً وأكثر ندرة من المواد الكيميائية، ما يضطر الكادر المؤهل في الكليّة من أساتذة ومدرّبين لإعادة صيانتها والاهتمام الشديد بها.

أما روح الجامعة، المتمثلة في الأبحاث، فهي «لن تنهض في المدى المنظور» بحسب مسؤول مختبر بحثي متحدّثاً عن «المختبرات البحثية التي تأسّست خلال السنوات الماضية، وكانت تضاهي تلك الموجودة في فرنسا»، آسفاً لـ«تعطل الأجهزة وسوء الإدارة بسبب المحاصصة، ما أوقف العمل في هذه المختبرات».

 

الموازنات التشغيلية

التقشّف يطاول كلّ شيء تقريباً، حتى عدد عمّال النظافة الذي انخفض من 20 إلى ثلاثة، مسبّباً في الكثير من الأحيان انقطاعاً في دورة العمل، ما يطرح السؤال عن المبالغ التشغيلية المطلوبة لكليّة بحجم العلوم من حيث المساحة وعدد الطلاب والمختبرات والقاعات، وكيفية تأمين هذه الأموال، ومنها كلفة المازوت للمولّدات، خصوصاً إذ علمنا أنّ الكهرباء لا ينبغي أن تنقطع لأوقات طويلة عن بعض المختبرات، لما تحتويه برّاداتها من مواد تفسد بسرعة. يلفت مدير الكلية ياسر مهنا إلى أن خط مجمع الحدث الجامعي الكهربائي يُعتبر من «خطوط الخدمة»، التي لا تنقطع عنها التغذية الكهربائية «طالما محطات توليد الكهرباء الرسمية تعمل، يحصل المجمع الجامعي في الحدث، ومن ضمنه كليّة العلوم على تغذية بالكهرباء 24/24. وفي حال أطفئت المعامل بشكل كامل، «تعود الكليّة للاعتماد على مولّداتها الخاصة».

 

ولتأمين احتياجاتها من مازوت وقرطاسية وحبر للطباعة، تلجأ الكلية إلى «السّلف والتبرعات والجيش». مثلاً، في الآونة الأخيرة تبرّع حزب الله بـ30 ألف ليتر مازوت لمولدات الكهرباء في كليّة العلوم تحديداً. أما «السّلف» التي يطلبها المدير لتأمين الأمور الأساسية، ووصل عددها إلى 10 حتى اليوم، فيشتري بها من الجيش وليس من السوق «لأن الجيش يقوم بعمليات الشراء من دولة لدولة، ونحن بدورنا نشتري منه الحبر والقرطاسية والأقلام، ما يوفّر علينا مبالغ طائلة». كما يستعين بكل «الستوكات القديمة» في الكليات المجاورة، لافتاً إلى أنّه استخدم سيارته الخاصة السّنة الماضية «لتحميل أوراق بيضاء من كليّة مجاورة استُعملت في طباعة الامتحانات».

 

علي كنج: همّنا تسيير المرفق العام

يؤكد عميد كليّة العلوم الدكتور علي كنج حرصه على تنظيم العودة الحضورية، «عبر تأمين القرطاسية، والصيانة والنظافة العامة»، لافتاً إلى أن هذه الأولويات فرضتها الأزمة «فيما كانت أهدافنا تتمثّل في تطوير الكليّة ومناهجها وتعزيز البحث العلمي والعلاقات الخارجية، أما اليوم فنكاد لا نطمع بأكثر من تسيير المرفق العام، وتشغيل الجامعة».

في حديثه مع «الأخبار»، يحرص كنج على إزاحة الغبار عن كلّ ما أثير عن الكلية مثل التشكيك في «الامتحانات الحضورية في زمن الجائحة، التي حافظت على مستوى الكلّية». كما يبدي عتبه على وسائل الإعلام التي تتّهم الإدارة بـ«محاربة الأساتذة المسافرين»، وكأنّها تروّج لعودة التعليم عن بعد، فيوضح أن هذا الأمر «يخالف القوانين، فمن غير المنطقي أن يحصل الأستاذ المسافر على راتب وتدرّج مثل زميله المقيم والحاضر في الكليّة، وهو غير موجود على الأراضي اللبنانية، ولا يمكن تغطية غيابه»، مؤكّداً في المقابل أنّ «الأساتذة المسافرين، الذين تقدّموا بطلبات استيداع أو تجميد تفرّغ، أماكنهم محفوظة بوعد من رئيس الجامعة ووزير التربية وهم يشكلون ما نسبته 90% من الذين غادروا». أما تغطية الفراغات التي تسبّب بها سفر الأساتذة فتتمّ عبر «زيادة الأنصبة التعليمية لزملائهم المقيمين من 250 إلى 400 ساعة سنوياً».

 

حسن مشرفيّة: واضع الحجر الأساس

يعدّ مجمع الجامعة اللبنانية في الحدث ثمرة إضرابات أساتذتها التي بدأت عام 1960، وتصاعدت وصولاً إلى تقديم الاستقالة الجماعية لأساتذة كلية العلوم سنة 1968 بقيادة أول عميد ومؤسّس كليّة العلوم الراحل البروفسور حسن مشرفية. وعلى أثر هذا التحرّك الكبير، تعهّد رئيس الجمهورية الراحل وقتها، شارل حلو، ببناء مبنى كليّة العلوم قائلاً للعميد مشرفية «المرء يبقى حراً حتى يعد».

بدأ العمل في شهر أيلول من عام 1968، وانتهى في حزيران 1970، وتمّ تدشينه بحفل حضره رئيس الجمهورية الحلو، وكان العام الدراسي 70/71 الأول في المبنى الجديد، والمختبرات الأحدث في تلك الأيام، التي صمّمت وجهّزت تحت إشراف أساتذة الكليّة. ويؤكّد أستاذ متقاعد من كليّة العلوم، كان طالباً فيها في تلك الأيام، مشاركته وأساتذته الإشراف على شركات عالمية ركّبت أجهزة في المبنى لم تكن موجودة في المنطقة سوى في لبنان، إلا أنّ العدو الاسرائيلي فكّكها وسرقها خلال اجتياح عام 1982، ما أقفل أبواب الجامعة حتى إعادة ترميمها وافتتاحها في عام 1995. ومن أبرز ما سُرق «مختبر المواد النووية» في قسم الفيزياء.