IMLebanon

كيف دخلت في لبنان وكيف خرج منّي؟

 

 

لم آتِ من خلفيّة لبنانويّة. أهلي لم يكونوا كتائبيّين أو شمعونيّين، وأحدُ أقاربي اقتلع شجرة أرْزٍ اعتراضاً منه على ما اعتبره تعصّباً في اللبنانيّة. أمّا قُبلتنا فلم تكن بيروت ولا جبل لبنان، بل طرابلس ومن ورائها حمص في سوريّا. ولم نكن نعتدّ بأدونيس أو عشتروت، بل بسيوف الفاتحين المبكرين في اليرموك والقادسيّة.

 

وعبر تقلّبات كثيرة، وكوارث عدّة، وجدتني أنتقل من فكرة، هي العروبة، التي لا تجد موازياً لها في الواقع، إلى واقعٍ هو لبنان، الذي بدت فكرتُه بحمولتها الرومنطيقيّة والريفيّة قليلة الإغراء، لا تثير الحماسة.

 

وحين أقول «الواقع اللبنانيّ» فإنّ أوّل ما أقصده الحرّيّة التي عزّ مثيلها في منطقتنا: حرّيّة الرأي والتعبير والتحزّب والإعلام والتنظيم النقابيّ، وحرّيّة التجرّؤ على الحاكم، وصولاً إلى التجرّؤ على لبنان نفسه. وبفعل مركزيّة الحرّيّة في النشأة اللبنانيّة، لم تحتلّ القوميّةُ موقعاً ملحوظاً في وطنيّة اللبنانيّين، ودائماً ظلّوا قلّةً أولئك الذين يسمّون أنفسهم قوميّين لبنانيّين.

 

ففي هذا البلد لم نعرف زعيماً أراد أن يصهرنا بالقوّة، فلم يكن لدينا أمان الله خان أو رضا بهلوي أو كمال أتاتورك، كما لم نعرف صدّام حسين أو حافظ الأسد، وفي السنوات الأخيرة التي سبقت الحرب، رُخّص للأحزاب السياسيّة التي كانت تُصنّف بأنّها «ضدّ لبنان»، وفاز في الانتخابات النيابيّة بعثيّ وناصريّ يعتبران البلد كلّه لزوم ما لا يلزم.

 

وفي هذه الغضون كانت الرأسماليّة تتمدّد من بؤرتها الجبليّة – البيروتيّة باتّجاه الشمال والجنوب والبقاع، فيما سبق لعهدي كميل شمعون وخصوصاً فؤاد شهاب أن طوّرا بُنى تحتيّة وإدارةً وجامعة وطنيّة محترمة، وباتت لدينا أعرض طبقة وسطى في المنطقة كلّها.

 

نعم، كان هناك امتياز للموارنة، بعضه موروث عن أسبقيّة الجبل التاريخيّة، وبعضه تعبير عن حزازات الجماعات الأهليّة ومخاوفها وميلها إلى الاستئثار والغلبة. لكنّنا لا نكون نتوهّم إن قلنا إنّ الرهان على تطوّر سلميّ وديمقراطيّ كان في وسعه أن يذلّل ذاك التفاوت بأكلاف أقلّ كثيراً من الأكلاف التي دُفعت لاحقاً. وأغلب الظنّ أنّه لو كانت المنطقة التي تحيطنا أقلّ صراعيّة واحتقاناً وتوتّراً، لكان في وسعها أن تضاعف مساحات التسوية ورأب التفاوت بين اللبنانيّين. بيد أنّ هذا ما لم يحصل. فالحرّيّة لم تُغرِ كثيرين، لا في بلدنا ولا في المنطقة، فيما التضحية بها بدت أبسط ما يكون.

 

وتدريجاً، إنّما بتصاعد، سمح اللبنانيّون المتنازعون للخارج بأن يصير هو داخلهم إلى أن أوشك كلّ داخل على الاضمحلال. فلبنان ينبغي أن لا يستقرّ طالما عبد الناصر يخوض معركة القوميّة العربيّة، وهو لا ينبغي أن يستقرّ طالما لم تُحلّ المشكلة الفلسطينيّة، واليوم بات الاستقرار غير مُحبَّذ ما دامت إيران في وضع رجراج. وقبل أيّام فقط، وبالحرف، قال وزير الخارجيّة عبد اللهيان إنّ «أمن لبنان من أمن إيران».

 

وتلازم امّحاء الداخل لصالح وهم إمبراطوريّ، مع الانكفاء الشامل إلى الجماعة الصغرى. ذاك أنّنا إذ ننكفىء عن الدولة – الأمّة، نطلّق أمّتنا الواقعيّة لصالح أمّة كبرى، إيديولوجيّة ومُتَوهَّمة، ونطلّق دولتنا لصالح الطائفة.

 

وبامّحاء الداخل هذا مصحوباً بيقظة حربيّة للطائفة وللامبراطوريّة معاً، نتحوّل إلى عيش دائم في الاستثناء، حيث تُعلّق الحياة والحرّيّة ولا يسطع إلاّ العنف وانتظار العنف.

 

وقد أتيحت لنا، في هذه الغضون، فرصتان لإعادة تأسيس الداخل، واحدة في 14 آذار 2005، وأخرى أكثر قاعديّة وأوسع انتشاراً في17 تشرين 2019، لكنّ فشل المحاولتين بات يبرّر الخوف من أن تكون أيّة محاولة للإصلاح قريبة من صبّ الماء في غربال. فما معنى إصلاح طوابق العمارة فيما أساساتها متصدّعة ومتداعية؟

 

ونحن اليوم بتنا «حزبيّتين»، «حزبيّة» المقاتل و«حزبيّة» القتيل، والاثنتان ننقسمان حول كلّ شيء تقريباً. أمّا المقاتل فيفرض، للمرّة الأولى في تاريخ البلد بهذه القوّة والإصرار، إيديولوجيا رسميّة توجّه لنا كلّ يوم أمراً: كونوا كذا وافعلوا كذا، وإلاّ كنتم خونة متآمرين، وأمّا القتيل فليس قتلُه مادّيّاً بالضرورة، إذ هو يُقتل بإفقاده الحرّيّة وحرمانه من تقرير مصيره. وهذا مع العلم بأنّ كثيرين قُتلوا مادّيّاً أيضاً حين لم يعبأوا بتلك الأوامر وأصرّوا على البقاء أحراراً.

 

ولبنان القديم والحرّ لم يكن فردوساً بطبيعة الحال، لكنّه بالتأكيد لم يكن جحيماً. وكانت المسافة الهائلة التي تفصله عن الفردوس أقصر كثيراً من المسافة التي تفصله عن الجحيم. والأهمّ أنّه كان بلداً للفرص المفتوحة ولو بشيء من التفاوت الذي أحدثَ التاريخُ بعضه وأحدثت العصبيّات بعضه الآخر. أمّا اليوم، فهناك شكّ عميق ومُبرّر في أن يكون لهذا البلد قرن ثان؟

 

يقال هذا مع الاعتذار منكم جميعاً، وخصوصاً ممّن هم شديدو التفاؤل بينكم. فأهل هذا البلد حاروا في أمره أكثر ممّا حار أيّ شعب في أمر بلده. وربّما آن الأوان كي نودّع تلك الحيرة المُعذِّبة ونستقرّ على يقين أظنّه سيكون، هو الآخر، مُعذِّباً.

 

أمّا في ما يعنيني، ويعني كثيرين مثلي في ما أظنّ، فقد تحوّل لبنان الذي تنكمش الحرّيّة فيه إلى بلد طارِد، بعضُنا يغادره جسداً وبعضُنا يغادره روحاً إلى حيث هناك فُرص للحرّيّة أكبر.

 

*مقتطف من مداخلة ألقيت في الجامعة الأميركيّة ببيروت، ضمن سلسلة ندوات «لبنان في قرنه الثاني».