IMLebanon

لبنان «الدكتوقراطي» على أكف العفاريت

هذا الذي يجري في لبنان وتحت مظلة أن البلد يمارس الديمقراطية وأن هذه الصفة ارتبطت بنظامه منذ أن نال الاستقلال عام 1943، لا مثيل له في أي بلد ينتسب إلى مجتمع الممارسة الديمقراطية، بل إن الذي يحدث فيه يؤكد أنه محكوم، إذا جازت التسمية، ﺑ«الدكتوقراطية». والأمثلة على ذلك كثيرة. هنالك نظام ودستور يحددان الواجبات والمسؤوليات وهنالك رئاسات ثلاث قضت صيغة التنوع الطوائفي بتحاصصها فكانت رئاسة الجمهورية للطائفة المسيحية المارونية ورئاسة البرلمان للطائفة الشيعية ورئاسة الحكومة للطائفة السُنية. وبالنسبة إلى الإدارات الأساسية فإن لكل طائفة حصتها في عدد من هذه الوظائف، مع حصة مضافة للطائفة المسيحية المارونية وهي أن يكون قائد الجيش مارونيًا على أن يكون رئيس أركان الجيش درزيًا. ولكي لا تبدو الكفة المارونية هي الراجحة وهذا يتسبب في أحاسيس تتراكم في الصدور، فقد ارتؤي أن يكون هنالك نائبان أرثوذكسيان؛ واحد لرئاسة البرلمان وآخر لرئاسة الحكومة. وهما في أي حال منصبان لا فاعلية لهما ولكنها المحاصصة التي هي في لبنان إحدى علائم الوجاهة.

بقيت الأمور وفق هذا التوزيع على المستوى الأعلى ثم على المستويات الأقل في الدولة مع مراعاة دقيقة للنسبة التمثيلية للطوائف في إدارات كثيرة وأيضًا فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية بحيث لا تطغى طائفة على طائفة وبالذات بالنسبة إلى الضباط، إلى أن بدأ وهج الناصرية يلفح التركيبة السياسية والصيغة التي كفل توازنها ما سُمي «الميثاق الوطني». وعن سابق تصميم أو أن نسبة الوهج كانت في بعض جوانبها نارًا، فإن «ثورة» لمصلحة الوهج الناصري تزعَّمها في الخمسينات أحد وجوه العمل السياسي البيروتي من الطائفة السُنية الرئيس صائب سلام الذي بذل بعد ذلك من التوعية، تكفيرًا عن المساوئ التي أفرزتْها تلك «الثورة»، ما جعل اللبنانيين يطمئنون إلى شعارات أطلقها في خُطب يلقيها أو كلمات يلقيها أمام جموع تزوره على نحو ما يحصل مع وريثه رئيس الحكومة الحالي تمَّام سلام الذي يحاول هو الآخر تنفيذ مضمون تلك الشعارات وأبرزها الدائم الحضور في الذاكرة «لبنان واحد لا لبنانان» و«لو تُرك اللبنانيون يعالجون خصوماتهم من دون تدخُّل المتدخلين لكانت أنفاسهم كُتمت من شدة العناق».

وبعدما لمس عبد الناصر مساوئ انعكاس وهْج ثورته على لبنان فإنه اغتنم مناسبة تسلُّم قائد الجيش اللبناني الجنرال فؤاد شهاب منصب رئاسة الجمهورية مدشنًا بذلك ظاهرة كل قائد جيش هو مشروع رئيس ما دام مارونيًا، وأزال من خلال لقاء أراده بعدما بات رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة التي تضم القُطريْن بين مصر وسوريا أن يجتمع بالرئيس اللبناني وأن يكون اللقاء داخل خيمة وعلى الحدود المشترَكة اللبنانية – السورية وليس أن يأتي رئيس لبنان إلى دمشق على نحو ما حصل مع سائر الذين ترأسوا في سنوات لاحقة تلت الواقعة الشريرة حيث إن طيفًا مسيحيًا مارونيًا أشعل البيت نارًا من خلال كمين لـ«أوتوبيس» ينقل عددًا من الفلسطينيين كانوا يشاركون في مناسبة احتفالية ثم فوجئوا بإطلاق الرصاص عليهم الأمر الذي كان الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية يوم 13 أبريل (نيسان) 1975.

من خلال هذه الشرارة وما بدأ يستتبعها على نحو ما تكرر في اليمن وما زال على الأيدي والنوايا الحوثية – الصالحية، بدأت بقايا الخيمة الديمقراطية في لبنان مرشحة للاحتراق. فلا مناصب من رئيس الجمهورية إلى رئيس البرلمان إلى رئيس الحكومة إلى مديري المؤسسات والأجهزة العسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية والتشريعية، إلا بقرار سوري ثم شيئًا فشيئًا باتت سوريا الأسد الأب (حافظ) مثل لبنان المزدهر والديمقراطي قبل اقتحام سوريا الأسدية أسواره، وبات من يمثِّل السلطة السورية لدى لبنان (المنتحران المنحوران لاحقًا غازي كنعان ثم رستم غزالي) أهم بكثير من الذين يتم تنصيبهم للرئاسات الثلاث.

والأهم من هذا كله أنه بعد انتزاع النظام الإيراني للنظام البشَّاري من فضائه العروبي، بات هنالك في لبنان دولة أقوى من الدولة اللبنانية التي تمارس دورها ضمن صيغة المحاصصة مع التمسك قدر الإمكان بالطقوس الديمقراطية خصوصًا أن «اتفاق الطائف» أعاد إلى الدولة اللبنانية شرعيتها المخطوفة الأمر الذي أوغر الصدر الأسدي الذي استعذب أهمية إحكام قبضته بلبنان وكان يقلق من تطلعات السوريين وأحلامهم بأن تكون سوريا مثل لبنان لجهة الحرية والأعمال وعدم طغيان الأساليب الأمنية على الحياة السياسية والاجتماعية، وهو بطبيعة الحال لا يريد إعادة النظر.

الدولة التي باتت وتحت ضرورات المقاومة لتحرير أرض احتلَّتْها إسرائيل في زمن الوجود السوري هي «دولة حزب الله» الذي أضاف إلى حاجته للديمقراطية نزوعه إلى فرْض الأمر الواقع بسبب القدرات العسكرية التي تكونت لديه وبحيث أن «جيش المقاومة» بات أكثر قدرة من «جيش الدولة». ومَن كانت هذه حاله يصبح بطبيعة الحال صاحب الكلمة الأساس لجهة تشكيل الحكومة ولجهة استمرارية رئاسة البرلمان في شخص الركن السياسي من الطائفة الشيعية نبيه بري. وعندما صوَّب السيد حسن نصر الله على الجنرال ميشال عون المتعطش إلى أن يعوِّض ما أصابه وما تَسبب به في الوقت نفسه للغير بأن يكون رئيسًا للجمهورية، فإن الجنرال نزع من «الأجندة» كل مواقفه السابقة وبات حليفًا من حيث الشكل وليس الاقتناع ومن حيث الحصول على مكسب وليس الانصهار في عقيدة ترعاها إيران ويحميها النظام البشَّاري.

هذا التحالف أنهى إمكانية أن تعود الديمقراطية إلى سابق رونقها على النحو الذي كانت عليه حتى الربع الأول من السبعينات. والدلالة على ذلك ما يجري في لبنان من تعطيل للمؤسسات ومن محاولات يلتحف القائمون بها بالثوب الديمقراطي. ومن هذه المحاولات جلسات الحوار بين رموز لبنان الذين يريدون ضمنًا بقاءه مريضًا ومن أجل ذلك لا تنجح فكرة الحوار، تمامًا على نحو ما هو حاصل في ليبيا.

وعندما تنعقد جلسة ثالثة في يوم يكون مضى على خلو منصب رئاسة الجمهورية 485 يومًا، ولا تقوى المرجعيات الدينية ولا تحركات خجولة في هيئات في المجتمع المدني على المرجعيات السياسية، فإن ذلك ليس من الديمقراطية في شيء. وعندما يقول الجنرال عون رمز التحالف المثير للاستغراب بين طرف يحاول إبقاء جمهوره المسيحي ملتفًا حوله ومرتضيًا توريث صهره عملاً بتقاليد عريقة في لبنان وهي توريث الآباء للأبناء.. أو للصهر كما يحدث للمرة الأولى «لا يهوِّل علينا أحد ويخيِّرنا بين الفوضى أو الرئيس الدمية فلتكن الفوضى إذا استطاعوا»، فإن ذلك أيضًا ليس من الديمقراطية في شيء. وعندما يمالئ «حزب الله» هذا الحليف الذي ينادي باسترداد حقوق المسيحيين، وليس تجاوبًا وانسجامًا مع ما ينادي به «حزب الله» ولا يجيب نصر الله على الاستغراب المستشري بين الجمهور الشيعي حول كيف أننا نساير مثل هكذا حليف فيما هو يرفض أن يكون هنالك أي بحث في مؤتمر دستوري يعيد النظر في الصياغات والنِسب التقليدية للمحاصصة كما يرفض حتى مبدأ أن يكون هنالك نائب رئيس جمهورية شيعي كما حال النائبيْن المسيحيين لرئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة.. إنه عندما تحدث هذه الممالأة ويتواصل الاستغراب وعدم التوضيح فإن ذلك يعني أن «الدكتوقراطية» تنخر في كل مفاصل الجسد اللبناني. وفي حال نفَّذ جبران باسيل صهر الجنرال عون تلميحاته غير المنطقية واقتحم على مسمع ومرأى «حزب الله» ورئيس «حركة أمل» رئيس البرلمان نبيه بري القصر الجمهوري وأجلس عمه الجنرال الذي من أجل ذلك تنازل عن رئاسة التيار الحزبي الذي أنشأه، على كرسي الرئاسة ولسان حاله يلهج بعبارة «فليبلِّط الآخرون البحر ما دام القاضي راضي»، والقاضي هو الحليف «حزب الله».. إنه عند ذلك يصح القول وبكامل الاقتناع إن لبنان الذي اشتهر بديمقراطيته بات محكومًا بصيغة «الدكتوقراطية». وليفسر كلٌ كما يريد معنى هذا المزْج من جانبي ككاتب بين المصطلحيْن: الديمقراطية والديكتاتورية.