IMLebanon

لبنان.. مئوية المجاعة الكبرى

تروي صور إبراهيم نعوم كنعان التي خرجت إلى النور عام 2014 وأرّخت للمجاعة الكبرى في الحرب العالمية الأولى، أو حرب الـ14 كما تسميتها من جدّة أبي، تروي مأساة مجاعة حقيقيّة ضربت متصرفيّة جبل لبنان، وهي يومها لبنان الحقيقي لأنّ ما تبقّى كان أجزاء مسلوخة عنه ومضمومة إلى بلاد أخرى كسوريا وفلسطين في تبعيّة الكلّ للإمبراطوريّة العثمانيّة، وللأمانة استدعت هذا المقال تساؤلاتي عن أثر الطقس الحار في آب اللّهاب عبر التاريخ في اندلاع الحروب في الأجواء الحارّة، كأن الرؤوس تحمى في الصيف القاتل!!

وكما في نزاع اللبنانيون على كتابة تاريخهم خلال فترة الحرب الأهليّة، تاريخ المجاعة الكبرى يظلّ غامضاً ومُتجاهلاً، كما في كلّ المراحل المفصليّة، تنقسم الوجهات في التأريخ والتبرير، البعض يرى أن اختصار تأريخ المجاعة الكبرى يسبّب انقساماً إسلاميّاً ـ مسيحيّاً مع أنّ المجاعة الكبرى ضربت مناطق واسعة من «سوريا العثمانية» وكانت تشمل ولاية سورية، وولاية حلب، وولاية بيروت، ومتصرفية جبل لبنان، وليس مبرراً إنكار أرقام الضحايا أو تخفيفها وتخفيضها بادّعاء عدم وجود إحصاءات، ولم يعد مفهوماً ولا مبرّراً اليوم تجاهل الحديث عن المجاعة الكبرى، أو تخصيص درس واحد لها في كتاب التاريخ بدل صفحات ثلاث غامضة ما دامت صور إبراهيم نعوم كنعان تجعلنا نظنّ أنّنا في الصومال لا في لبنان، وأيّ احتكار هذا الذي يحوّل النّاس في جبل لبنان إلى هياكل عظميّة منتفخة البطون ملقاة على الطرقات، في المقابل هل تبدو بعض التبريرات التي تنطّحت للكتابة عن المجاعة الكبرى بأنّ الحصار الذي ضرب على السواحل اللبنانيّة نفّذه الإنكليز وحلفاؤهم الفرنسيّون، كأنّ أصحاب هذا التبرير يقولون ولكن بكلام موارب هل هكذا يكون الأتراك المسلمون أبرياء بالرّغم من تجويع جمال باشا السفّاح لجبل لبنان بقوله «أنا لا أريد إدخال السلع الغذائية لجبل لبنان لأن اللبنانيين موالون للفرنسيين، وهو ما سيؤدي إلى سقوطها في أيدي الفرنسيين»، علينا أن نتساءل هنا: أين كان الفرنسيّون يتواجدون في جبل لبنان؟!

يؤرّخ العام 1915 لبدء المجاعة في لبنان على أثر الحرب وقيام نظام السخرة، وغزو أسراب الجراد للمنطقة منذ ربيع العام 1915، ولم يدخل الحلفاء إلى لبنان إلا في العام 1918، وعلى مدى سنوات ثلاث فتك الجوع باللبنانيين، وفي رسالة مؤرّخة بتاريخ 7 أيلول 1916 يؤكّد رئيس مدرسة عينطورة العازاريّة أنّ «المجاعة المُمَنْهجة لا تزال تفعل فعلها. يبيع الأتراك رطل الطحين بـ12 فرنكا، لكن اذا قرّر أحد شراءه، يستشعر الأتراك توفّر المال على الفور فيطلبون 30 فرنكا»، الحديث عن «مجاعة ممنهجة» يجعل الظنّ يميل إلى فكرة «الإبادة الجماعيّة» التي يرفض كثيرون فكرتها، وإن افترضنا أنّ «سفر برلك» كانت عامّة ولم تستهدف فقط مسيحيي جبل لبنان، خصوصاً أننا سمعنا عنها مرويّات كثيرة من جدودنا، وعن السخرة وعن الرّجال الذين كانوا يبترون أصابعهم السبابة حتى لا يأخذهم «التركي» إلى السُخرة، خصوصاً أننا من «ولاية بيروت» التي ضربتها المجاعة، فأنا لا أذكر جدّة والدي إلا وهي تحثّنا على «التقشف» في طعامنا خلال حرب السنتيْن (1975 ـ 1976) وكانت جدتي تبرّر لنا ذلك بما قاسته في حرب سفر برلك…

ثمّة صحف كثيرة أرخت بالتأكيد لهذه المجاعة الكبرى، على الأقل بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانية، كان الشّهود العيان ما زالوا على قيد الحياة، وكان المؤرخون والكتاب يوثقون وإن من غير نشرٍ يوميات الحرب، على الباحثين في هذا الشأن أن يتقدّموا لتأريخ متأخر قرناً من الزمان لهذه المجاعة الكبرى، من دون تقديم استنتاجات مسبقة، يوميّات الحرب لا بدّ وأنها موجودة خلف أسوار الجامعة الأميركيّة في لبنان، أو في دفاتر الكتاب والأدباء في سنوات الحرب الأربع، أو عند من يمتلكون ملفات عثمانية عن يوميات الحرب الأولى، ابحثوا بين هذه الأوراق البالية عن تصريحٍ منسوب إلى وزير الحربية التركي آنذاك، أنور باشا، يعود تاريخه للعام 1916 قال فيه: «إن الحكومة (العثمانيّة) لا يمكنها استعادة حريتها وشرفها إلا عندما يتم تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن واللبنانيين، الأوائل دمرناهم بالسيف، أما الآخرون فسنميتهم جوعاً»!!