IMLebanon

لبنان ليس نهاية التاريخ

يسألونك في باريس: أي لبنان تريدون؟ لا تجيب. لم يعط للبنانيين أن يصنعوا وطناً، أن يؤسسوا دولة، أن يختاروا سياسة. يحبون الإملاء. لبنان هو كذلك منذ وجد. هو كذلك منذ الطائف. يومها، صار البلد وطناً نهائياً لأبنائه ولغيرهم أيضاً. بعدها صار محمية ثم تحول مشاعاً ثم بات عقاراً.

يعيدونك إلى العهد الذهبي للبنان الازدهار والريادة والفن والإبداع و «سويسرا الشرق» . لا تجيب. تشفق على نوستالجيا متأخرة لمرحلة منسية. كان لبنان يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين. فرّطوا بالجميل، طبيعة وإنساناً وانفتاحاً وثقافة. قامروا به. لم يبقَ منه غير التحسر عليه.

يستعرضون رجالات لبنان «الكبار». لا تشاركهم التذكر. يمر في مخيلتك «دون كيشوت». طواحين أحلام. لم يتركوا أثراً. انتهوا بسرعة الأفول. لبنان بشارة الخوري خرّ بين أقدام السلطان سليم وأشباهه. في زمنه، حاز لبنان الوليد لقب المزرعة. فساد وتزوير. لبنان رياض الصلح انتهى وجهه العربي بعدما قصمت إسرائيل ظهره بانتصارها على العرب. لم يعد نداً للخوري فاختل التوازن. لبنان كميل شمعون حُذفت منه العروبة بعدما تبنى «مشروع أيزنهاور» و «حلف بغداد». ظن أنه الشاه. أُسقط لبنان في الفتنة. لبنان «الله والوطن والعائلة» نحروه. آباؤه وأولاده والأحفاد. أسقطوه بالرصاص. لبنانهم لم يعد له قائمة. «فتيانه» أيتام بعدما انهزم العدو الحليف. لبنان صائب سلام لم يعد وطنا بجناحين. هو في الأصل لم يكن كذلك. ها هو يزحف على جبهته. يكفي ما يقوله فيه وريثه الرئيس تمام. هجاؤه للحكومة ومن هو فيها مهذب برغم فحش الفساد. لبنان رشيد كرامي اغتيل معه. لبنان كمال جنبلاط أسقطه الليل العربي الطويل. لبنان الماروني أضغاث ذكريات. لبنان السني صفقة عقارية. لبنان الشيعي غارق في كل الأمكنة الملتهبة. لبنان الأحزاب الوطنية انتهى في حرب السنتين. لم يعد لبنان الوطني الديموقراطي إلا كلمات متقاطعة تتلفظ بها أحزاب لا تجيد التجديد.

فمــــاذا بقي من الزمن الجمــيل وما إرث هؤلاء «الكبار»؟

يلحّون عليك بالإجابة: كيف تحتملون أن تعيشوا بلا أحلام؟ بلا لبنان بطريقة مختلفة؟ كيف تقبلون بسلطة النفايات؟ كيف يسيب بلد بلا مؤسسات؟ لا تجيب. عيب. لا يجوز أن تتحدث عن بلدك أمام الأجانب وكأنه موبوء. مسكون بالعجز. مقيم في القرف. مستغرق بالفساد ومستلذ به. تخجل وتفضل الصمت. لا ترغب في مشاحنات التصنيف وتحميل المسؤوليات: الحق على «حزب الله». عناد الجنرال. تهرّب الحريري. ألاعيب بري. السعودية. إيران. إلى ما لا نهاية له من السيلان السياسي الرديء.. تكــــره هذا الجنون الهـــذياني وتنأى عن المساهمة في الجواب.ما عاد مفيداً أن تضــــرب بالميت. تجوز الرحمة فقط. لا بد من فضيلة غسل اليدين.

يستدرجونك إلى التفاؤل: لبنان هو البلد الوحيد الذي تفاداه العنف. الأجهزة الأمنية فعّالة في محاربة الإرهاب. يصمتون عن مشاركة «حزب الله». تفهم ذلك. يواصلون الحديث عن «العبقرية اللبنانية». يفتقدون رجال التسويات الضرورية. اللبنانيون أمهر من يحيك التسويات.. تبتسم نصف ابتسامة. تفضل البقاء في قرارة قناعاتك: كل التسويات تم صنعها في الخارج. المتصرفية تسوية دولية. لبنان الكيان تسوية بمستوى التآمر ما بين سايكس وبيكو. الميثاق الوطني تسوية وطنية بطائفية فاشلة وانحياز متربص. اتفاق الطائف كُتب في كل مكان وأُبرم في السعودية وصُدق في لبنان. صوتوا عليه ولم ينفذوا منه شيئاً مفيداً. لدينا رؤساء بعدد الرؤوس المذهبية. لم ينجــحوا في وضع حد للاقتــــتال الداخــــلي. بالكاد كانوا ينجحون باتفاقات لوقف النار لساعات. اتفاق الدوحة في قطر تدخّل في تفاصيل التفاصيل.

مساكين هؤلاء الأجانب الذين يحبون لبنان. يحبوننا ونحن لا نُطاق. تشكرهم على نواياهم الطيبة. تغفر لهم تفاؤلهم. لا تحدثهم عما يحبطهم. لا تقول لهم لبنان يشبه وهران في رواية الطاعون لألبير كامو. المدينة الجزائرية أُخضعت لحصار خوفاً من العدوى. النجاة من الوباء صدفة. الاستسلام للحصار يخفف من تبعات الأمل. اللبنانيون اعتادوا الموت السياسي. لا يأملون شيئاً يُرجى من طبقة سياسية معتلة وحاضنة للأمراض التي لا شفاء منها. لا دواء إقليمياً جاهزاً. لا رغبة بالإصلاح والتغيير. لا قدرة على وقف الانهيار. هم سببه. لبنانهم مقفل واللبنانيون يعيشون أيامهم برتابة البقاء في الانتظار، ولا بارقة أبداً… أيام اللبنانيين محسوبة بالاعتياد على الأسوأ. يعيشون أزمنتهم كقدر. يعرفون أن الغد أسوأ من الأمس. لا شيء يُرجى. محكومون بعبقرية تداول العجز.

تعود إلى صمتك للبحث عن كلام مستقبلي. تقول، لا بد من نهاية لهذا العبث. المستقبل اللبناني بعيد يقترب. لسنا في نهـــــاية التاريخ اللبناني. الحروب في المنطقة ستنتهي حتماً ولو طال الزمن. وهؤلاء القابضــــون على لبنان ستتراخى قبضـــاتهم. لدى لبنان ما يستحق الحياة. نعم. لدى لبنان ما يستحق الرهان، ولو طال الزمن.