لن يكتب تاريخ «ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)» في لبنان من دون اعتبارها لحظة مفصلية في تاريخ الشتيمة بالخطاب السياسي العلني. كمّ الشتائم بحق الطبقة السياسية، التي تابعها اللبنانيون والعالم خلال ساعات النقل المباشر الطويلة، طوال 3 أسابيع، أمر غير مسبوق في تاريخ التلفزيون اللبناني أو تاريخ الخطاب السياسي عامة.
كثافة الشتم أسقطت من أيدي المراسلين الميدانيين؛ أقله في العشر الأوائل من عمر الثورة، إمكانية ضبط الهواء وضبط اللغة وفرض الرقابة، فخرجت الشتائم على سجيتها كأنها جزء طبيعي من الخطاب المطلبي للمتظاهرين. وحين حاول المراسلون بعدها، أي بعد العشر الأوائل، تهريب الميكروفونات من أمام أفواه المتظاهرين حين يرصدون ميلاً نحو الشتم، بدت حركاتهم وجملهم الاعتذارية للمشاهدين مفتعلة ومبعثرة، ولا تصمد أمام حرارة الشتم وتلقائيته وصدوره عن منطق أصلي ورغبة مشحونة.
لم تفت هذه الظاهرة خطابات السياسيين منذ اندلاع الثورة، حيث بالغوا في المحاضرات الأخلاقية والاستبشاع والاستفظاع، متخذين لأنفسهم، وضعية السمو الأخلاقي على المنتفضين في وجوههم. جميعهم أتحفنا بتقنيات التظاهر «المعقم» من الشتم والسباب، وضرورة فعل ذلك والإقلاع عن ذاك. ولأن مثل هذه الدعوات أعجز عن أن تغير المشهد، نزل فتوات بعض الأحزاب، لا سيما «حزب الله»، إلى الشارع لفرض الرقابة على «نص الثورة» بالعصي والحجارة والضرب.
وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ورئيس حزبه، نال القسط الأكبر من السبّ والشتم. خصص باسيل جزءاً من خطابه السياسي الأخير للدفاع عن كرامته. لم ينتبه إلى أن المسألة، في ذروة شخصانيتها، ليست شخصية. صحيح أنه باسيل، ولأسباب كثيرة صار العدو الشعبي الأول للثورة، لكنه أيضاً، وبما يتجاوز شخصه، بات ينوب عن طبقة سياسية كاملة؛ وإن كان أحد أكثر وجوهها دلالاً وحضوراً واستفزازاً.
في الغالب؛ لا شيء يوازي قدرة الشتيمة على الأذى النفسي والمعنوي الذي تلحقه بمن يتلقاها، ولا شيء يضاهيها، عدا الاغتيال الجسدي، في التعبير العنيف والجذري عن الاختلاف السياسي. كما أنها تمتلك قدرة استثنائية على إلغاء المسافة بين المتظاهر والسياسي، وتقيم نوعاً من التوازن بينهما كان سبق
أن ألغته مراتب السياسة والاجتماع، وقننته الأنظمة والأعراف. ينتفض المنتفضون على طبقة سياسية يرونها تعيش خارج القانون عبر الفساد والمحسوبية، وهي نفسها الطبقة التي تحاول فرض القانون على غير المستفيدين من منظومة الفساد والمحسوبية. وحدها الشتيمة تنزع من السياسي امتياز العيش خارج سلطة الدولة والمؤسسات، وتضعه مع المتظاهر بالتساوي خارج دائرة القانون، بحيث إما يستمران خارجها معاً، وإما يعودان إلى كنفها معاً.
لم يكن مثل هذا التطور متاحاً في أدوات الصراع السياسي، لولا رواج تقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة؛ وعلى رأسها منصة «تويتر». لم يكن للشتيمة، قبل «تويتر»، مكان في الخطاب السياسي العام. اقتصر حضورها على المشافهة وفي أطر ضيقة لا تتجاوز بضعة أفراد. غير أن «توترة» الخطاب السياسي؛ أي مسار تأقلم اللغة السياسية مع لغة «تويتر»، أفرد مساحة للشتيمة في النص المكتوب والمحفوظ، وهو ما كان امتيازاً للصحف والمجلات والكتب والوثائق السياسية فقط، التي تخلو من الشتم والسباب إلا فيما ندر.
ما فعله «تويتر» أنه فتح للشتيمة باب الشيوع، من خلال كثرة المتابعين، مسقطاً كثيراً من المحرمات التعبيرية، كما فتح لها باب الخلود من خلال توثيقها في نصوص مكتوبة، كانت مقفلة بوجهها لقرون. فـ«تويتر» ألغى المسافة بين ما يقال في الصالونات والأندية وبين الأفراد، وما يقال في الحقل العام، ونزع عن اللغة السياسية أقنعة وأستاراً كثيرة، وخففها من أثقال المصطلحات التقنية والإحصاءات والأرقام، ونفخ في شحناتها العاطفية إلى حدود قصوى، لا سيما ذلك الشغف بالأصالة عند المتظاهرين في مقابل الافتعال المهيمن على الخطاب السياسي.
المتظاهر الشاتم، أصلي، واقعي، حقيقي، مباشر ومختصر، أما السياسي المشتوم فمفتعل في دفاعه، مغرق في استحضار وقائع رقمية أو سياسية أو عاطفية، وغالباً ما يطيل في تقليب الأوراق والدراسات أمامه في خلال خطب مديدة!
الأهم أن الشتيمة مسلية، ولأنها كذلك؛ فهي فائقة السرعة في الوصول والانتشار، بعكس خطابات السياسيين المملة. لعل بين الأسباب العميقة لاختيار باسيل عدواً أول للجمهور أنه أبعد السياسيين عن الفكاهة. على عكس حس الدعابة الذي يميز نبيه بري، أو سخرية وليد جنبلاط، أو الكاريزما الخاصة بعدد آخر من السياسيين… جبران باسيل هو الأكثر إملالاً. لا تُذكر له عبارة لمّاحة، أو نكتة، أو لحظة تخفف فيها من ثقل صورة السياسي الدائم الهجوم على خصومه، الدائم الغضب والاستنفار. هو نقيض الشبيبة في الشارع، رغم أنه الأقرب سناً إليهم من بقية أقرانه في نادي الزعامات اللبنانية. هو بهذا المعنى هدفهم المثالي.