IMLebanon

كأنّه عالم معلّق

  

تمديد فترة المفاوضات بين بريطانيا والاتّحاد الأوروبيّ حول «بريكزيت»، يقول الكثير عن صعوبة «بريكزيت»، إن لم يكن استحالتها. الذين أيّدوها كانوا، كما يتبيّن اليوم، يؤيّدون الصعوبة التي ترقى إلى استحالة. ورطة كهذه تنمّ عن مأزق النكوص حين يُقدّم بوصفه البديل الأوحد عن السير إلى الأمام. تظاهرة لندن الجبّارة التي طالبت بإعادة الاستفتاء، وتزايد الأصوات في الحزبين الرئيسين التي رفعت المطلب نفسه، إشهار مُدوٍّ للمأزق. «كونفيديراليّة الصناعة البريطانيّة»، كبرى منظّمات رجال الأعمال في المملكة المتّحدة، لا تتحدّث إلاّ عن «أضرار بريكزيت» التي تحقّق معظمها قبل أن تتحقّق.

 

 

والمأزق عالميّ، لا بريطانيّ فحسب، يتجلّى في أشكال كثيرة ومتفاوتة، منهاالحرب التجاريّة التي باشرها دونالد ترامب ضدّ الصين أساساً، لكنْ أيضاً ضدّ دول أخرى بعضها حليف تقليديّ لواشنطن. منها أيضاً تمزيق عدد من المعاهدات الدوليّة، التجاريّة وغير التجاريّة، والتهديد المتواصل بتمزيق سواها أو مراجعته. مجمل السلوك الترامبيّ يندرج، في الواقع، في خانة النكوص. يصحّ هذا خصوصاً في بناء الجدران بين البلدان وتفريق الجماعات على البلدان. ينطبق النكوص أيضاً على أفعال الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، وتحديداً على سعيه إلى استعادة أجزاء مختارة من السلوك الأمنيّ السوفياتيّ. هذا النهج البوتينيّ الذي بات له أتباع ومقلّدون كثيرون في العالم، يضع القانون وحكم القانون بين مزدوجين ويمضي في طريقه. لكنّ الردّ على بوتين يقع هنا أيضاً: في العودة إلى سباق التسلّح، على ما أوحى انسحاب أميركا من معاهدة 1987 حول التسلّح النوويّ المتوسّط المدى، التي وقّعها ريغان وغورباتشوف.

 

الصدام بين صعوبات التقدّم إلى الأمام وصعوبات الرجوع إلى الوراء يعلّق العالم ويعلّق مسائله الحسّاسة على نحو يمتدّ من الاقتصاد إلى البيئة ومن أنماط الحاكميّة إلى أنماط الحرب والسلاح. وما لا شكّ فيه اليوم، أنّ الحروب المفتوحة، خصوصاً في منطقتنا، في سوريّة واليمن وليبيا، وبدرجة أقلّ فلسطين – إسرائيل، والتي لا تجد من يغلقها، أفدح نتائج التعليق وأعلاها في حساب الكلفة الإنسانيّة.

 

لقد أصيبت الوجهة التي بدأت تشقّ طريقها مع نهاية الحرب الباردة، بانتكاسة متعدّدة الأوجه. التفاؤل بالعولمة الاقتصاديّة والمعلوماتيّة، ومعه التفاؤل بالديموقراطيّة الليبراليّة، خلّفا جيوباً من اليأس والبؤس في آن معاً. توسّعُ هذه الجيوب عزّز الميل، أو بالأحرى الوهم، إلى الانعزال واكتشاف الخصائص القوميّة «الجوهريّة». هكذا أعيد الاعتبار، بعد هدم جدار برلين، إلى الجدران، من فلسطين إلى أميركا مروراً بتركيّا وإيطاليا وسواهما. بلدان أوروبا الوسطى ربّما قدّمت الدليل الأبلغ والشهادة الأكثر توثيقاً على الصعيد هذا: بعد ثورات على التوتاليتاريّة مسكونة بالتوق إلى بناء أنظمة ديموقراطيّة ومجتمعات ليبراليّة، رست تلك البلدان على شعبويّات قوميّة وأنظمة أكثريّة. أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة كما كانتا في 1989 – 91 لم تعودا قبلة أوروبا الوسطى. مع هذا فالحقبة السوفياتيّة، بروسيا أو من دونها، ليست أيضاً قابلة للاستعادة. هناك، كما في روسيا، تلوح الشعبويّةُ المرآةَ الأصفى لهذا التعليق: إنّها محطّة رجراجة ومهتزّة تعيّن صعوبات الطريق إلى الأمام الديموقراطيّ، خصوصاً الليبراليّ، كما تعيّن صعوبات الارتداد إلى الاستبداد المحض.

 

بالمعنى نفسه، يصحّ القول إنّ الدولة الوطنيّة لم تستنفد كلّ أغراضها، وبعضُ البلدان لم يصل بعد إلى مرتبة الدول الوطنيّة. مع هذا، فإنّها استنفدت الكثير من أغراضها، وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة يساهم إلى حدّ بعيد في تعليق العالم. والعالم المعلّق لا يعمل. إنّه، في أحسن حالاته، ينتظر فيما يهتاج ويضطرب ويحترب. لكنّ الأخطر أنّ طول الانتظار المصحوب بتفاقم المشكلات قد لا ينجب إلاّ المزيد من الأنبياء – الكَذَبة، وقد ينجب أيضاً تطبيعاً مع الكوارث مفاده أنْ ليس في الإمكان أحسن ممّا كان. يذهب دي ميستورا. يأتي دي ميستورا آخر.