IMLebanon

«طويلة.. طويلة»

هذا٬ باختصار٬ رد أي نائب أو سياسي لبناني – سواء كان «14 آذار» أو «8 آذار» أو ما «بين بين» ­ على السؤال عن الموعد الجدي لملء الفراغ الرئاسي في لبنان. والطريف في هذا السياق أن المرشحين أنفسهم لملء هذا الفراغ٬ يدركون في قرارة أنفسهم هذا الأمر٬ ولا يتجشمون عناء الحضور إلى جلسات البرلمان المخصصة لانتخاب الرئيس.

«طويلة.. طويلة».

هكذا كان يقال عن الأزمة السورية لدى تفجرها عام 2011. وهكذا يقال اليوم عن الأزمة الرئاسية في لبنان. وقد يكون القاسم المشترك بين «طول عمر» الأزمتين أنهما لم تعودا محليتين بل حصيلتان سياسيتان لتقارع مصالح إقليمية ودولية وتقاطعها على ساحة الشرق الأوسط.

ما يمكن تسميته «الرعاية الخارجية» لأزمتي لبنان وسوريا لم تمد بعمرهما فحسب٬ بل أخرجتهما أيضا عن نطاق حق شعبي الدولتين في تقرير مستقبلهما السياسي بمعزل عن «الإرادات» الخارجية.

ربما بلغت «الرعاية الخارجية» للنزاع السوري حدها مع انعقاد مؤتمر جنيف. ولكن مراوحة أزمة الفراغ الرئاسي مكانها في لبنان٬ على مدى سبعة عشر شهًرا٬ لم تبق للدولة اللبنانية سوى الحد الأدنى من بنيتها الرسمية. ومع التسليم بأن هذا الوضع لا يؤثر كثيرا على واقع دولة أصلا فاشلة بمقاييس الدول العصرية٬ فهو يدعو للتحسب من تداعياته السياسية المحتملة على مستقبل «كونفدرالية الطوائف» شبه المشرعة دستوريا أو على ما يسمى٬ مجازا «الصيغة اللبنانية».

اللهم ليس دفاعا عن صيغة تعايش هشة أحبطت الطابع السياسي للعبة الديمقراطية في لبنان بل حرص على نظام شرق أوسطي يتيم ما زال يعترف رسميا بالتنوع المذهبي والاثني لمجتمعه٬ في وقت تعيش فيه دول المنطقة الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى.

في شرق أوسط يدخل٬ في القرن الحادي والعشرين٬ عصر حروب القرون الوسطى٬ بات مجرد الاعتراف بالتنوع المعتقدي والسياسي في أي دولة شرق أوسطية إنجازا حضاريا٬ بحد ذاته.

من هنا أهمية الحرص٬ في هذه المرحلة بالذات٬ على «الصيغة اللبنانية» التي يعّرضها غياب الموقع المسيحي عنها للانهيار٬ خصوصا أنه الموقع الأول في هرم الدولة اللبنانية. من هذا المنظور لم يعد انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية عملية «كباش سياسي» بين قوى حزبية داخل الطائفة المارونية بل إجراء مطلوبا للحيلولة دون سقوط صيغة لبنان التعددية في أدق مرحلة يمر بها٬ فهذه الصبغة٬ على علاتها٬ تظل تجربة واعدة لإمكانية قيام دولة مشرقية يحتضن مجتمعها تنوعا معتقديا وسياسيا مؤهلا لأن يشكل القاعدة التعددية لنظام ديمقراطي عربي يغلب الصيغة الانفتاحية لدولة الأندلس على الصيغة المغلقة لدولة «داعش».

وكما أدى سقوط الأندلس إلى غلق قناة تفاعل حضاري عربي – أوروبي (عانى الغرب المسيحي من تبعاته آنذاك بتقوقعه٬ دينيا٬ وتطرفه عنصريا)٬ قد يؤدي انهيار «الصيغة اللبنانية» إلى زوال التجربة العربية الوحيدة لوطن يقوم على مبدأ التعددية في إطار نظام محكوم بالديمقراطية رغم قيود «التوافقية المذهبية» التي تكبله.

من المبالغة بمكان تشبيه لبنان اليوم بأندلس الأمس. ولكن ذلك لا يمنع الافتراض بأن الوجود المسيحي في «الصيغة اللبنانية» ساعد بمقدار ما على فتح قناة تواصل حضاري وثقافي مع الغرب الأوروبي وساهم٬ بالمقابل٬ في الإبقاء على شكل من أشكال «الاهتمام» الغربي في لبنان يتجاوز أحيانا نطاق التعامل الدبلوماسي العادي بين الدول.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد فشل جلسة البرلمان اللبناني السابعة والثلاثين في انتخاب رئيس جديد للبلاد: متى تبدأ مقاربة أصحاب المصلحة الأولى في استمرارية «الصيغة اللبنانية» لموضوع الفراغ الرئاسي٬ أي الساسة الموارنة٬ بالاتعاظ من التبعات السياسية والاجتماعية والحضارية للتيارات المذهبية التي تعصف حاليا في الشرق الأوسط٬ واستطرادا تقديم أولوية المحافظة على الصيغة السياسية المناقضة للمفاهيم «الداعشية» للأوطان٬ بعد أن أصبحوا في نزاعاتهم الحزبية الضيقة كمن يجدع أنفه نكاية بوجهه؟

بعيدا عن الادعاء بأن لبنان دولة مثالية في نظامها٬ ودولة ناجحة في ممارساتها السياسية٬ يبقى لبنان٬ في ظروف الشرق الأوسط الراهنة٬ ضرورة سياسية رسالتها الأولى إثبات قابلية مجتمعات الشرق الأوسط لتقبل التعددية والتأقلم مع مقتضياتها.