IMLebanon

مضايا أم اليرموك ؟

حال من الخزي تعتريك عندما تشاهدهم على الشاشة الصغيرة أمامك. أنت جالس على الكنبة في ما يشبه الاستراحة بعد عشاء أو غداء، أما هم فيتضورون جوعاً ويحتضرون بصمت خانق. تعتذر من نفسك أمامهم، خجِلاً ومتألماً، يؤنبك وخز ضمير. لكنك تعلم جيداً أنك براء من هذه المجاعة التي تحصد الأطفال والنسوة والعجائز في مضايا. تعلم أنك عاجز كل العجز حتى عن هجاء القتلة الذين يحاصرون البلدة السورية وسكانها الذين يتجاوزون الأربعين ألفاً. وعاجز أيضاً عن فضح جريمة العالم الكبير والأول الذي يصمت إزاء مثل هذه المجزرة الرهيبة. العالم الأول المتعجرف الذي لا يضيره البتة أن يجوع الأطفال وأمهاتهم في سورية وأن يموتوا ما داموا بنظره أعداداً فقط، لا يهم إن تناقصت في عالم هو الثالث وما دون.

تنظر إليهم على الشاشة وتحاول أن تغض الطرف من شدة هول المنظر: طفل رضيع تناوله أمه الماء والملح وليس الماء والسكر ولا الحليب. حتى حليب صدرها جفّ من فرط الجوع الذي يضرب أحشاءها. طفل آخر يستغيث طالباً كسرة خبز، شفتاه يابستان، الحشيش الذي اجتزه من الحقل لم يخمد نار تضوره. رجل عجوز امتص الجوع جسده ولم يبق منه سوى عظام وفم ما عاد قادراً على إغلاقه من شدة الهزال. صدور لم يبق منها سوى أقفاص وضلوع ناتئة كأنها هياكل عظمية تتنفس في رمق أخير.

هل مسموح في عصر الألف الثالث أن يموت أناس أبرياء مثل هذه الميتة الشنيعة؟ هل مسموح أن يُحاصر مثل هؤلاء الناس ويُقطع عنهم الخبز والماء، لئلا أقول الدواء وسائر حاجاتهم كبشر؟ أليس من حق هؤلاء أن يأكلوا ولو خبزاً؟ ألم تخصهم الطبيعة بهذا الحق؟

لا أخال حكام العالم الجديد وأباطرته يفهمون ماذا يعني أن يمكث طفل أو امرأة أو عجوز بلا طعام أياماً وأياماً، أن يصبحوا كـ»الحيوانات» يرعون العشب في البراري. إنهم يبصرون ولكن لا يريدون أن يبصروا. لتتناقص أعداد البشر، يقول هؤلاء، وهي يجب أن تتناقص كما يفيد علماء الأرض والبيئة في مختبرات الحداثة الأوروبية أو الأميركية، لئلا تتفاقم أزمات العالم الأول. هؤلاء الحكام والأباطرة الذين يغمضون عيونهم على المجازر والمقتلات الرهيبة التي تحصل في شرقنا العربي هل سيفتحونها على مجاعة تحصد أطفالاً وعجائز؟ فليتمادَ المجرمون في جرائمهم وليسقط الأبرياء عشرات ومئات…

كل ما حمل إلينا الغرب من أفكار ومبادئ وأخلاق «إنسانوية» وعقود اجتماعية ودعوات إلى الإصلاح… كلها تسقط حيال هذا المشهد المأسوي في مضايا. أمام مجازر التجويع هذه تفضح الحداثة الغربية نفسها، وكذلك الثورات العلمية التي كان هدفها خدمة الإنسان. الغرب عنصري وفئوي، متعجرف ولئيم، نرجسي وأناني، لا همّ له سوى نفسه ومصالحه وأرباحه وسباياه… أما مؤسسات حقوق الإنسان فتبدو كأنها من كرتون. مشاهد التجويع لم تبق ممكنة وليس مسموحاً بها. ونظام دكتاتوري مثل نظام البعث السوري ومن لف لفه من أحزاب مذهبية يجب ألا يكون له ولو زاوية في هذا العالم. وكذلك كل التنظيمات الإرهابية الظلامية التي لا تولي الإنسان طفيف قيمة.

هذه فضيحة رهيبة يضيفها النظام السوري إلى سجلّه الإجرامي الحافل. هذه المرة يغتال النظام الأطفال تجويعاً وبهدوء تام وليس كما فعل من قبل مع غاز السارين الذي يخنق للتو. ويمارس النظام جريمته هذه بتؤدة ورخاوة بال، فهو كما أفادت وسائل الإعلام تباطأ كثيراً في إصدار قرار السماح لقافلة المعونات التي أرسلتها الأمم المتحدة، في الدخول إلى مضايا المحاصرة. يريد النظام وأحزابه الحليفة أن يطيلوا أمد التجويع والقتل أقصى ما يمكنهم.

أما ما يدعو إلى الاستغراب والعجب فهو سعي إعلام النظام وحزب الله إلى تكذيب أفعال التجويع، تلفيقاً وتزويراً. وقد لجأ هذا الإعلام إلى الخديعة المكشوفة لطمس الجريمة الشنعاء، فوقع في الفخ. صرّح أحد إعلاميي الصمود والتصدي أنّ صور الأطفال الجائعين التقطت في مخيم اليرموك فترة حصاره وليس في مضايا، وهذه طبعاً فضيحة الفضائح. كأنّ أطفال اليرموك غير أطفال مضايا.