IMLebanon

سوق المبيدات الزراعية: «حاميها… مستوردوها»!

 

فوضى المبيدات الزراعية في لبنان تتخطى السجال الذي تجدد أخيراً حول السماح بدخول بعض من هذه المواد من عدمه. بحسب إحصاءات خبراء وزارة الزراعة، هناك 4000 طن من المبيدات الخطيرة تدخل إلى لبنان سنوياً بنحو شرعي. أما ما يدخل بطرق غير شرعية، فليس معروفاً حجمه. من يراقب عمليات الاستيراد، ووفق أية معايير؟ ومن يراقب طرق الاستخدام التي لا تقلّ خطورة عن طرق الإدخال التي تحوم حولها الشبهات، ولا سيما لجهة عدم الثقة باللجنة التي تشرف على إدخال المبيدات وطريقة اختيار أعضائها ومعاييرها؟ وأي استراتيجية لدى الحكومة ووزارة الزراعة للتخفيف من استخدام هذه المواد التي تدخل إلى السلسلة الغذائية وترسب فيها وتسبب مشاكل صحية خطيرة وتهدد التنوع البيولوجي بالكثير من المخاطر المنظورة وغير المنظورة؟

الرقابة على المبيدات الزراعية لا يفترض أن تنحصر بطرق استيرادها وإدخالها، على رغم أهمية هذا الأمر. صحيح أن الشبهات التي حامت حول هذا الموضوع كانت في محلها، كما يُستنتج من السجالات التي دارت قبل شهور بين وزير الصحة السابق وائل أبو فاعور، ووزير الزراعة الحالي غازي زعيتر حول إعادة السماح بإدخال مواد كانت قد مُنعت من الدخول… إلا أن الأخطر ربما، وما يحتاج إلى برامج مختلفة للرقابة، هي طرق التسويق لهذه المبيدات وطرق استخدامها، والتزام إرشادات البائع والتعليمات الملصقة على العبوات لناحية التزام المعايير والكميات، أو لناحية التزام فترات التحريم، ولا سيما عندما تنضج المواسم وتصبح جاهزة للاستهلاك، حتى لا تصل إلى المستهلك مصحوبة برواسب خطرة… فضلاً عن علامات الاستفهام التي تطرح حول هوية المسوقين وكيفية مراقبتهم، سواء أكانوا تجاراً عاديين أم مهندسين زراعيين يعملون لدى تجار الأدوية. وكذلك كيفية تنظيم هذه التجارة التي لا تحكمها أية معايير، ما أدّى إلى زيادة كبيرة ــــ غير ضرورية ومبالغ فيها ــــ في استخدام المبيدات.

 

لجنة علمية؟

سجال أبو فاعور ــــ زعيتر انتهى بالاتفاق على إحالة الموضوع على لجنة علمية محايدة (لم تصدر الحكومة مرسوماً بتشكيلها بعد) تؤلف من كليات الزراعة في الجامعات اللبنانية وممثلين عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو). هذا الاتفاق جاء بعد التشكيك بلجنة الأدوية الزراعية التي يرأسها المدير العام للزراعة وتضم في عضويتها ثلاث مديريات في الوزارة وممثلين من الجامعة الأميركية ومصلحة الأبحاث العلمية والزراعية ووزارة الصحة ودائرة الصيدلة وعن المهن (التجار) التي تعمل في هذا القطاع (استيراداً وبيعاً وتصنيعاً وتوضيباً وتعبئة). فقد كانت الشكوى الدائمة من أن تضارب المصالح يحكم كثيرين من أعضاء هذه اللجنة. فيما كان ردّ مصادر وزارة الزراعة الدائم أن اللجنة لا تستند إلى رأي مستوردي الأدوية، بل إلى لوائح الاتحاد الأوروبي (الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية) ووكالة حماية البيئة الأميركية ومنظمة الصحة الدولية و«فاو»…

 

المبيدات الأكثر استخداماً

أكثر الأنواع استخداماً هي المبيدات الحشرية والفطرية وأدوية الأعشاب والأمراض. في مقدمها مبيدات الأعشاب التي تستخدم لمكافحة الأعشاب الضارة التي تنافس الخُضروات والحبوب. وتستخدم المبيدات الحشرية لصدّ الحشرات والآفات التي تهاجم المحاصيل مثل ذباب الفواكه، ومبيدات الفطريات التي تسبب أمراضاً للنباتات، إضافة إلى المنتجات الأقل استخداماً، مثل مبيدات العث والطيور. ويعتمد نوع مبيدات الآفات المستخدمة على طبيعة المحصول والتهديدات التي يحددها المزارعون، أو من يستشيرونهم من مهندسين، أو محال بيع الأدوية الزراعية.

 

والواقع أن لبنان يعتمد، بشكل كبير وشبه حصري، على وكالات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كمرجعية في المواصفات والمقاييس والمعايير. فلا يُسجَّل أي مبيد ما لم يكن مسجلاً في هذه «الدول المرجعية». إلا أن المسؤولين يتجاهلون، مثلاً، الاتهامات الدولية لوكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة بالخضوع لهيمنة كبريات الشركات الأميركية التي تمول الكثير من مراكز الأبحاث العلمية ودوريات النشر والجامعات. ويتجاهلون الشكوك التي تحوم حول دور الشركات المصنعة للأدوية والمبيدات الزراعية في دعم الأبحاث العلمية التي تستند إليها الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية، رغم أن هذه الأخيرة شُكّلت عام 2002 عقب أزمة جنون البقر في أوروبا وتلوث الدجاج بالديوكسين في بلجيكا، كنتيجة لزعزعة ثقة المستهلكين بلجان الأغذية الوطنية. كذلك يتجاهلون، في الوقت نفسه، أن هذه «الدول المرجعية» نفسها، تسعى في شكل دائم إلى وضع استراتيجيات للتخفيف قدر الإمكان من استخدام المبيدات والتفتيش عن بدائل أكثر أمناً.

 

خفض الاستهلاك

فرنسا، مثلاً، التي تمتلك قطاعاً زراعياً مهماً وصناعة مبيدات متقدمة، وتستهلك أكثر من 75287 طناً من المبيدات سنوياً، وضعت أخيراً خططاً لخفض استخدام المبيدات إلى النصف بحلول عام 2025، بعدما تبيّن أنها ثامن مستهلك للمبيدات في أوروبا. فإذا كان بلد متقدم صناعياً وزراعياً، يعتمد سياسة كهذه ستكون لها بالتأكيد آثار سلبية لجهة خفض الإنتاج الزراعي، ما الذي يمنع بلداً مثل لبنان، متخلّفاً صناعياً وزراعياً (موازنة وزارة الزراعة 0,04% من الموازنة العامة)، ويستورد المبيدات بشكل شبه عشوائي، من اعتماد استراتيجيات ومبادئ الحماية والتجنب والتخفيف من استخدام هذه المواد؟

تقارير علمية كثيرة تؤكد إمكان خفض استخدام المبيدات إلى النصف مع تشجيع الزراعات العضوية. ورغم الخشية من أن يؤدي ذلك إلى تراجع إنتاج المزارعين وانخفاض ربحيتهم، إلا أن بعض التجارب أظهرت أن وقف استخدام المبيدات في بعض الحالات لا ينعكس تراجعاً في الإنتاج، وخصوصاً تلك التي تستخدم للقضاء على الأعشاب الضارة، عبر جزّ الأعشاب عند بداية ظهورها وتركها فوق التربة بعد فلاحتها. أضف إلى ذلك إرشاد المزارعين إلى الامتناع عن مقاومة إغراءات بعض التجار حول «تأمين المحاصيل»، أي استخدام مبيدات تحسباً لكي لا تصاب المزروعات بآفات معينة… وهو إجراء لا فائدة منه في معظم الحالات.

 

التجنب عند الشك

تؤكد تقارير علمية محايدة أن المواد المصنفة «سامة» أو «شديدة السمية» أو «مسرطنة» أو «مسببة للأمراض» تشكّل 23 في المئة من المبيدات في العالم. لذا، يفترض في كل الأحوال تقديم مبدأ التجنب والحيطة على أي أمر آخر عند الشك في أي منتج، مع التركيز على مبيدات الآفات المصنّفة «خطرة»، حتى ولو كان مسموحاً بها في «البلدان المرجعية». إذ إن أجهزة الرقابة في هذه البلدان أكثر قوة بما لا يقاس من هيئاتنا الرقابية.

كذلك هناك حاجة ملحّة للعمل على إعادة هيكلة سوق مبيدات الآفات. إذ إن العديد من التعاونيات والشركات التجارية التي تقدم المشورة للمزارعين هي نفسها التي تبيعهم المبيدات. وفي هذا تضارب واضح في المصالح، لأن من مصلحة تجار الأدوية الزراعية إبقاء المزارعين «مدمنين» لهذه المنتجات.

 

المواد المصنَّفة «شديدة السمية» و«مسرطنة» تشكّل 23 في المئة من المبيدات في العالم

 

ويبقى مفتاح الحد من استخدام المبيدات في تغيير الاستراتيجيات القائمة لناحية دعم الزراعة العضوية وتطوير بدائل فعالة. فعلى سبيل المثال، يمكن الاستعاضة عن المبيدات الحشرية الكيميائية بشبكات واقية أو منتجات التزاوج أو المصائد الهرمونية… وغيرها. وهذه الحلول البديلة تصلح للبيئة الزراعية اللبنانية التي لا يعتمد فيها معظم المزارعين كليّاً على الزراعة في معيشتهم، ما يمكنهم من التضحية بخفض الإنتاج قليلاً، مقابل الحصول على إنتاج أنظف وصحي أكثر.