طوني عطاالله
تستعيد حكومة الرئيس نواف سلام صورة نموذجية عن حكومات لبنانية طبيعية. إنها حكومة برلمانية مسؤولة، من المرات النادرة ما بعد وثيقة الوفاق الوطني تتشكل من وزراء ليسوا برلمانيين وليست برلماناً مصغرّاً لتعطيل المحاسبة وتبادل منافع شخصية على حساب المصلحة العامة.
تقوم الحكومة على مبدأ التضامن الوزاري، أي يُفترض ان تُمثّل بمختلف وزرائها، وحدة منسجمة، متفاهمة، حول سياسة الدولة في شتى المجالات (خارجية، دفاعية، اقتصادية، اجتماعية …). التضامن الوزاري هو مبدأ افتقدت إليه معظم الحكومات في لبنان منذ 1989، وهو كفكرة موجّهة للعمل الحكومي تعطي قوة للنظام الديمقراطي واحترام سياقاته لا استغلال نقاط ضعفه Borgetto M., La notion de fraternité en droit public français. Le passé, le présent, et l’avenir de la solidarité, Paris, LGDJ, Montchrestien, 1993, in Dictionnaire de la culture juridique, dir. Denis Alland et Stéphane Rials, Lamy Puf, pp. 1427-1430..
يمثل التضامن الوزاري قيداً سياسياً ملزماً في النظام البرلماني يحث الوزراء على العمل كفريق متضامن واتخاذ مواقف مسؤولة بعدم التعرّض أو الإدلاء بتصريحات فردية تتناقض مع الاتجاه المتخذ بشكل جماعي المتمثل في البيان الوزاري، وعلى عدم التصرف ضد بعضهم البعض، تحت طائلة إقالة الوزير أو استقالة من لم يعد متفقاً مع سياسة الحكومة.
1. التضامن الوزاري مبدأ عالمي
تندرج حكومة نواف سلام في هذا السياق، وهو ليس سياقاً خاصاً بلبنان، بل مرادف للأنظمة البرلمانية في العالم. هذا المبدأ مطبق في كندا، بموجبه قرارات الحكومة يجب أن تحظى بدعم جميع الوزراء، أما الوزراء الذين يرفضون الامتثال فيتوجب عليهم الاستقالة.
في فرنسا، التضامن الحكومي أساسي في الجمهورية الخامسة لضمان التناسق بين عمل الوزراء، يرقى إلى مصاف المبادئ الخلقية في العمل الحكومي. مجلس الوزراء هو الموقع المتميز حيث يطّلع رئيس الوزراء على عمل جميع الوزراء، وفي حال الخلاف مع أحدهم يلزمه بتغيير مشروع القانون أو المرسوم النزاعي أو الاستقالة. نشأ المبدأ في ظل الجمهورية الثالثة (المادة 6 من القانون الدستوري 25/2/1875).
في لبنان، كثيراً ما تمّ البحث في إيجاد نظام داخلي لمجلس الوزراء لتفادي المقاطعة وظواهرها المعطِّلة. النظام الداخلي هو أمر جيد، لكن خلقية العمل الوزاري والسياسي تبقى الضمانة الأكثر أهمية لانضباط الوزراء.
في المملكة المتحدة يجتمع رئيس الوزراء مع الوزراء في جلسات أسبوعية مغلقة لمناقشة الموقف الجماعي تحاشياً للردود غير المتناسقة أمام مجلس العموم. يعاد النظر باستمرار في التضامن حيث تسعى المعارضة إلى استغلال التناقضات بين الوزراء. ومن الأهمية أن يتوصل الوزراء إلى إجابات مشتركة ومتشابهة قدر الإمكان.
أكثر المبادئ رمزية في التضامن الوزاري هو مبدأ المسؤولية التضامنية ويقضي بأن الوزراء مسؤولون بشكل جماعي أمام مجلس النواب، تبعاً لذلك يستطيع البرلمان أن يحاسب الحكومة أو أحد وزرائها من خلال السؤال والاستجواب وحجب الثقة عن الوزراء جماعياً أو إفرادياً. يبنى التضامن على أساس التجانس السياسي والتنسيق الدقيق بين رئيسي الجمهورية والحكومة في تأليف الحكومة وعملها. وهذا التأليف سهل عندما يُشكّل ركنا الإجرائية إئتلافاً متجانساً.
حكومة نواف سلام، بوصفها متجانسة في النظام البرلماني اللبناني، لا يملك الوزراء حق النقض ضد القرارات المبنية على قاعدة الأكثرية، خلافاً لما كان معمولاً به في مراحل وحقبات طويلة في السنوات الثلاثين الماضية. بعد اليوم تطبق المادة 65 تطبيقاً دستورياً حيث لا اجتهاد في معرض النص الواضح. يتوجب تالياً على الوزراء المعترضين على القرارات المتخذة بطريقة التصويت، إما الرضوخ لقاعدة الأكثرية، وإما اتخاذ موقف قانوني يقضي بالاستقالة، أي الخروج من الحكم إلى صفوف المعارضة، وفقاً للأصول البرلمانية التي تفترض وحدة موقف الحكومة المسؤولة والمتضامنة أمام البرلمان.
مع تأليف حكومة نواف سلام، ولّى زمن الحكومة التي يقاطع بعض وزرائها البعض الآخر، وتنتفي تسميات لا تمت إلى الدستور من مثل حصص ومحاصصة و”برلمان مصغّر” يعطل المحاسبة و”فيتو” و”ثلث معطل” يستخدم لمصالح خارجية لا علاقة لها بلبنان، و”وزراء معارضة”، كتسمية لا وجود لها في أي قاموس حقوقي، يستفيدون من منافع الحكم ويزايدون في الشارع كسباً للرأي العام.
إنها حكومة طبيعية في تشكيلها ورئاستها ودورها وممارساتها المنتظرة لتأمين استقرار الحكم وفعاليته بحيث تزول معها عوارض ضعف الحكومات في لبنان بدءاً من اللجوء إلى “باب عالٍ” بعد سقوط كل الأبواب العالية، ولم يعد من مرجع سوى “الكتاب” أي الدستور حسبما كان يردد الرئيس فؤاد شهاب. ينتفي معها تالياً “تسريب” المذاكرة السرية الضرورية بين الوزراء لنجاح التسوية، وما كان يرافقها من تصعيد يزعزع الحلول. السجالات الإعلامية بين الوزراء لم تكن في الماضي عنصر استقرار وانسجام حكوميين. إنها نهاية ظاهرة انتقاد بعض الوزراء بشدة لسياسة الحكومة التي هم أعضاء فيها على شاكلة حكومة إسرائيل الراهنة التي يرأسها بنيامين نتنياهو وتنازع فيها مراراً سموتريتش وغالانت وبن غفير وغيرهم.
تنهي حكومة نواف سلام الظواهر اللبنانية المرضية التي كان يصفها الرئيس سليم الحص بقوله: “يخيّل إليَّ أحيانًا أن العلة هي في صيغة الحكومة، فهي من النوع الذي ينعكس الخلاف داخلها أزمة خارجها تلوكها الإذاعات الخاصة والصحف، وهي من النوع الذي يتحول فيه الخلاف إلى صدام على مستوى لا يبقى بعده أو فوقه مرجع للاحتكام أو المشاورة أو المراجعة إِلا دمشق (النهار، 18/10/1984).
2. البيان الوزاري خطة الحكومة
نصت المادة 66 من الدستور، على أن البيان الوزاري هو “خطة الحكومة” التي تعرضها على مجلس النواب لنيل ثقته. كل خطة يفترض تحديد أهدافها بصورة واضحة، وتعيين المشاريع المتفق عليها بدقة، وبرمجة مهل زمنية لإنجازها، واختيار الوسائل المناسبة والخطط البديلة، وأخيراً المباشرة بتنفيذ ما تعهدته الحكومة حال الفوز بثقة المجلس.
إن الاتفاق على المبادئ العامة ووضوح السياسات الحكومية التي يجري تنفيذها من خلال خطط مرحلية، من شأنهما إزالة الاشكالات أو سوء التفاهم الذي يمكن أن يعيق العمل الحكومي، أو يمكن أن يجمّده في المستقبل. ومع ذلك لا يمنع قيام خلاف لاحق على التفاصيل، إلا أن هذا يحتّم العودة إلى البيان الوزاري وإلى الدستور والقوانين لضبط الوزراء (طوني عطاالله، التضامن الوزاري: دراسة حالة في النزاع والتسوية في الأنظمة الإئتلافية، بيروت، 1997، 224 ص.) يمثل البيان الوزاري الحد الأدنى من الخطط والمشاريع المتفق عليها بين الأفرقاء، والوثيقة المكتوبة التي تجمع بين مصالح كل الأطراف، ويمثل أيضًا وحدة موقف الحكومة أو التضامن الحكومي. يساهم التجانس الوزاري في تقوية التضامن داخل الحكومة. وتعتبر عملية اختيار الوزراء أساسية بالنسبة إلى تأليف حكومة منسجمة أو غير متجانسة.
3. من الانسجام الحكومي المتعدد الأطراف إلى الانسجام الثنائي
في لبنان يمكن صيانة التضامن الوزاري وتفادي مأزق الخلافات تالياً، بوجود انسجام بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهذا يشكل ضمانة لوحدة الموقف ويقلل من احتمال وقوع المقاطعة. اختزلت الدراسات، التي تناولت مسألة الانسجام الحكومي واقع الموضوع إلى حدود البحث في نوعية العلاقة بين رئيسي الجمهورية والحكومة حصراً. يمكن تقدير دقة وصوابية تلك التحليلات والاستنتاجات، خصوصاً ما أورده فايز الحاج شاهين الذي أقام صلة وثيقة بين الاستقرار السياسي في لبنان ووجود السلطة الإجرائية بين أيدي “ثنائي منسجم”. يمكن مراجعة جدول باسماء رؤساء الجمهورية والحكومة، منذ 1943 حتى نهاية عهد الرئيس الياس سركيس، يظهر حالات توافر الانسجام وفقدانه وأثرها على الاستقرار السياسي في:
Antoine Messarra, Le modèle politique Libanais et sa survie (Essai sur la classification et l’aménagement d’un système consociatif), Beyrouth, U L, 1983, 545p., p. 369.
تعدت مسألة التآلف خلال مراحل الأزمات منذ 1975 موضوع الانسجام “الثنائي” إلى البحث في توفير انسجام متعدد الأطراف (انسجام بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وانسجام بين بعض الوزراء وبعضهم الآخر، وانسجام بين بعض الوزراء المسيحيين ورئيس الجمهورية، وانسجام بين بعض الوزراء المسلمين ورئيس الحكومة…). اليوم لبنان أمام مرحلة تعود فيها الأمور إلى الحالة الطبيعية المتمثلة بالعودة إلى الانسجام الثنائي. العلاقة وثيقة بين الاستقرار السياسي والتضامن الحكومي أو الانسجام داخل السلطة الإجرائية. فالأزمات الحكومية كانت غالباً مرادفة لفقدان التضامن الحكومي.
* عميد المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية والإقتصادية (2014-2020)
الجامعة اللبنانية