بعيدًا من ضجيج الفظاعات التي ارتكبت في محافظة السويداء، والاستهجان الإنساني تجاهها، لا بد من نقاش هادئ في ما خص معضلة الأقليات في سوريا. ولا مهرب هنا من تسمية “الأقليات”، واتّباع سياسة النعامة التقدميّة، وكأن المسألة يمكنها أن تنحصر فقط في نقاش حول “المواطنة”. وبغضّ النظر عن التفاصيل (وما أكثرها) التي رافقت الأحداث الأخيرة، وخصوصيات التنكيل (حلق الشوارب مثالًا) يبقى الواقع أبسط من كل هذا بكثير: هناك سلطة سياسيّة ذات طابع إثني حاد، تمثّل ديموغرافيًا الأغلبيّة الإثنية شبه الساحقة في سوريا، وصلت إلى الحكم بعد عقود من النضال السياسي والعسكري بمواجهة نظام إثني – أقلّوي، ولو اتخذ هذا النضال في الكثير من الأحيان أبعادًا ليبراليّة ومدنية. وهناك في سوريا ثلاث مجموعات إثنية ذات حضور قبليّ – جغرافي، وهي: الأكراد والعلويون والدروز (المسيحيون ليسوا قبيلة بالمعنى السياسي كما إن ليس لهم منطقة نفوذ، ما يجعلهم معنيين حصرًا بحقوقهم كأفراد). من هنا يبدأ النقاش.
ليست المعضلة بطبيعة الحال حكرًا على سوريا. بل إن معضلات مشابهة واجهت يوغوسلافيا في لحظة تفتت الجمهورية الفدرالية، وفورة الشعور القومي – الإثني الذي طغى وغالبًا ما كان مغلّفًا بعناوين “وحدة الدولة” من جانب القيادة الصربيّة تحديدًا. لم تنجح كل محاولات فرض سلطة الأكثرية على مناطق نفوذ الأقليّة في معظم الأحيان: الصرب في البوسنة حصلوا على كانتون، كوسوفو شكّلت دولة خاصة بها (ولو غير معترف بها من مجلس الأمن)، و حتى أن مونتنيغرو المتصلة إثنيًا بصربيا اختارت الانشقاق وإنشاء دولتها الخاصة في العام 2003، أي بعد عامين من اعتقال القائد التاريخي للمشروع الإثني الصربي في العام 2001. حيث لا فدرالية، كما في حال كروات البوسنة، شراكة في السلطة التنفيذية مع حقوق فيتو تبدأ ولا تنتهي. هناك مثال واحد على نجاح السلطة المركزية في فرض سلطتها على منطقة نفوذ لأقلية إثنية، ولكن ذلك تطلّب ليس فقط هزيمة عسكرية كاملة بل تطهيرًا عرقيًا أيضًا: في العام 1995 قاد الرئيس الكرواتي فرانكو تودجمن هجومًا صاعقًا أدى إلى تفكّك شبه الدولة التي كان الصرب قد أقاموها على الحدود ((republic of Serbia Krajina، ما أدى إلى فرار مئتي ألف مواطن صربي إلى صربيا، وبقاء زهاء خمس آلاف من العجّز. هذا هو السيناريو المتاح. هل هذا هو السيناريو المطروح؟ لا اعتقد.
مفهومة هي رغبة الرئيس السوري أحمد الشرع بأن يكون رئيسًا لكل سوريا، كما هي مفهومة رغبته بأن لا يحوّل السلطة المركزية في سوريا إلى فيتوقراطيّة (vetocracy)، أي نظام حكم محكوم بالتعطيل الدائم للقرارات بحكم حقّ المجموعات الطائفية بالنقد (كما هي الحال في لبنان ممارسة خلافًا لدستور الطائف). كل هذا مفهوم. ما هو ليس مفهومًا، و لا منطقيًا، ولا يصبّ أصلًا في مصلحة تجربة الرئيس الشرع، هو الرغبة في تكرار تجربة “الدولة المركزيّة الشاملة” بالقدرات العسكرية عمليًا وبعنوان الأغلبيّة الطائفية نظريًا. هذه التجربة محكومة سلفًا بالفشل، بحكم المعطيات الموضوعيّة، كما إن عدم الغوص فيها يكاد لا يؤثر سلبًا على إمكانية نجاح حكم الرئيس الشرع. بل على العكس تمامًا: بدا ضعيفًا ومتراجعًا، غيّر جزءًا من رأي الإدارة الأميركية تجاهه، كما وحّد الدروز حول عنوان “الحكم الذاتي” وزادهم تشددًا تجاهه (فهو درجات متعدّدة)، قرّب الرابط الأقلوي بين دروز سوريا ويهود إسرائيل، ناهيك عن تأثير سلوك “الجولانيين الصغار” من حملة السيوف والمقصّات على صورة الحكم الجديد. إذا أراد الدروز شكلًا من أشكال الحكم الذاتي، هل ذلك محرّم بالمبدأ، أو أنه يؤثر على نهوض الدولة في سوريا، أو يحد من إمكانية تقدّم “مشروع سنغافورة”؟ الأكيد أن لي كوان يو، لو كان ما زال على قيد الحياة، لم يكن لينصح بهكذا عمليّة ولا بهكذا خطاب.
ربما يبرّر العقال من داعمي الرئيس الشرع أن الخوف من تدحرج كرة الثلج الطائفية (domino effect) مشروع، بحيث إن سمح لكانتون درزي بالتواجد، لا بد أيضًا من كانتون علوي وكانتون كردي أيضًا. هكذا تتحول سوريا إلى مجموعة كانتونات طائفية. وهذا طرح جدير بالنقاش. ولكن الوقائع ليست فقط نظرية بل عمليّة أيضًا. هناك التجربة الكندية، بحيث الفدرالية تشمل عشرة أجزاء من الاتحاد، منها ذات الطابع الإثني (كيبيك مثالًا) ومنها ذات الطابع الجغرافي. في سوريا، إعطاء الدروز شكلًا من أشكال الحكم الذاتي لا يحتّم مثيلًا كرديًا أو علويًا لهذا الاستثناء، بحكم العامل التركي المؤثر شمالًا (إضافة إلى الإعلان الحديث لمنظمة حزب العمال الكردستاني بإنهاء مرحلة النضال العسكري) وخصوصيّة العنوان العلوي بعد أربعة عقود من حكم الأسد (لاحظوا الفرق بين تجربتي السيطرة على الساحل ومحاولة السيطرة على السويداء). المسألة إذًا تتطلّب قدرًا من البراغماتية المتحرّرة من التعليب الأيديولوجي والتعامل بواقعية مع المعطيات الجيو – سياسية (وليس تصريحات توم برّاك).
في الكثير مما كتب أكاديميًا عن الفدرالية الإثنية، هناك شبه إجماع على أمرين: إذا كانت ستعطى في نهاية المطاف، فمن الأفضل أن تعطى باكرًا، بالتفاهم، وقبل إراقة سيل من الدماء. الأمر الثاني هو أن الرغبة بفرض سلطة الحكم المركزي ذات الطابع الإثني يمكن أن تنجح فقط في حال تخلٍ دولي – إقليمي عن الأقلية، وهزيمة عسكرية، وتطهير عرقي. من دون ذلك، يتحوّل المطلب المعتدل بالحكم الذاتي إلى فدرالية مكتملة أو حتى الانفصال (والانضمام إلى إسرائيل؟). التجارب التاريخية كلها ماثلة أمامنا جميعًا، فما الفائدة من تكرارها في سوريا، بعد عقود من القهر تحت عنوان “الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة”؟ الفائدة الوحيدة من كل ما حصل من مآسٍ، هو أن يكون الانتقال من الحال المشكلة (problem) إلى حال الأزمة (crisis)، كما قال يومًا وزير الخارجية الأميركي كيسينجر للرئيس المصري أنور السادات إبان حرب الـ 73، قد يسهّل الحل “الشامل والعادل”، على قاعدة سلام خارجي (مع إسرائيل) مرفقًا بتسوية داخلية (مع الدروز). فلقد آن الأوان للشعب السوري كلّه أن يستريح حقًا.