IMLebanon

الموصل بعد حلب: تدمير المآذن وتشويه التاريخ

دفعت الموصل ثمن استعادتها من «داعش» غالياً. قتل ودمار وخراب ستستلزم عقوداً طويلة لنسيانها وموازنات ضخمة لإعادة بنائها. ولا نعلم حقاً إذا كان من الممكن ترميم الدمار الذي لحق النفوس والمشاعر بسبب تجاوزات من يفترض فيهم تحرير المدينة من طائفية «داعش» العنيفة والحدّية، فبدا كما لو أن بعض هؤلاء المحررين أتى فاتحاً وغازياً، لا مستعيداً لمدينة في وطنه. وهذا تماماً ما حصل في سورية، في حلب وحمص وغيرهما، وكما لا بد حاصل في الرقة التي التفتت الأنظار إليها الآن في عملية التطهير الواسعة ضد «داعش» التي تحركها الولايات المتحدة ويلعبها فرقاء محليون لا يبدو أنهم يتذكرون أن الملعب الذي عليه يلعبون لعبتهم الخطرة والقذرة كان يوماً ما وطنهم.

حدث مهم بين أحداث عدة مؤسفة في تحرير الموصل ثارت حوله الخلافات التي تصاعدت حدة الكثير منها، كما دأبنا اليوم في خلافاتنا، للوصول إلى حد الاتهام بالعمالة أو الخيانة أو التطاول على الجيش وقوات «الحشد الشعبي» التي بذلت الكثير في سبيل تحرير المدينة من «داعش» (طبعاً بعد أن كانت قد فقدتها ببلاهة وقصر نظر هائلين قبل ثلاث سنوات)، وهي كلها مواضيع مقدسة لا يجوز المساس بها في خطابنا العربي المأسور ضمن عقلية إقصائية بائسة. هذا الحدث هو تدمير منارة الجامع النوري الحدباء في ٢١ حزيران (يونيو) وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة عن مسؤولية تدميرها التي لم تحسم بعد. هذه المأذنة التي أعطت اسمها للمدينة في صفة محببة، وإن كانت تشير إلى عيب في بنائها، صمدت على مر القرون. فقد أمر ببنائها نور الدين محمود ابن زنكي الأمير التركي الذي وحد سورية الداخلية وأجزاء كبيرة من شمال العراق في مسعاه لاسترداد فلسطين من الصليبيين، ومصر من الفاطميين الإسماعيليين، وعموم سورية من الأمراء المتناحرين عام ١١٧٢. سياسة التوحيد التي اتبعها نور الدين ترافقت مع سياسة تسنين واضحة لدى هذا الأمير المتدين والطموح الذي وعى أن توحيد الجبهة الداخلية عقائدياً وسياسياً ضروري لمقاومة المد الصليبي الذي كان هدفه الأول.

مأذنة الجامع النوري في الموصل كانت كل ما بقي من جامع نور الدين. ولا يبدو لي أن تدميرها جاء نتيجة ضرورة عسكرية أو بسبب ضغط العمليات ضد «داعش»، بل لا بد أنه كان مقصوداً، تماماً كما كان تدمير مأذنة الجامع الأموي الكبير في حلب يوم ٢٣ نيسان (ابريل) ٢٠١٤ فعلاً متعمداً أيضاً. فالمأذنتان ترمزان الى الفترة ذاتها والسعي ذاته والعقلية ذاتها. كلتاهما نتاج العائلة الزنكية التي حكمت في سورية والعراق نحو القرن والتي استطاع أعظم أمرائها نور الدين محمود (وليس زنكي كما يخطئ الكثيرون في كتابة اسمه) استعادة زمام المبادرة في الحروب الصليبية وتمهيد السبيل أمام النصر الهائل الذي حققه صلاح الدين، الذي كان أحد قواده العسكريين، عام ١١٨٧ في معركة حطين واستعادته القدس إثر ذلك.

نور الدين بنى مأذنة الموصل في آخر سنوات حكمه، ومأذنة حلب بنيت على مراحل لكن إتمامها بالروعة التي كانت عليها تم على عهد آقسنقر، جد نور الدين ومؤسس الدولة التي عرفت فيما بعد بالزنكية أو الأتابكية، عام ١٠٩٤. أي أن المأذنتين مرتبطتان بطريقة أو بأخرى بنور الدين وبذكراه، وتدميرهما يحمل في طياته رسائل عابرة للزمن عن أحقاد وثارات لم تمت بعد بل تفاعلت وتطعمت بوقائع العصر الحديث وسياساته وتحالفاته لتكسب بُعداً آنياً. تدميرهما هو في الحقيقة تشويه متعمد للتاريخ.

لكن من دمرهما؟ هل هم الشيعة الذين لم يغفروا لنور الدين سياساته القمعية ضد شيعة سورية، بخاصة في حلب، بعد أكثر من تسعة قرون؟ أم هم «الداعشيون» الذين لم يهضموا أن يكون هناك أمير سني مجاهد من طراز نور الدين ولكنه في الآن نفسه متصوف ومتأله يعتقد بشيوخ الصوفية ويراعي مشاعر مدارس السنّة كلها؟ أم النظامان في العراق وسورية اللذان، كل لأسبابه، يحملان ضغينة عميقة ضد الوجه السني للمدينتين؟ أم القوات المحاربة الحليفة، خصوصاً الأميركية في العراق، التي لا تقيم وزناً للتراث الثقافي للبلاد كما أثبتت غير مرة؟ هم أي من هؤلاء؟ لعلنا نتمكن يوماً من تحديد المجرم الحقيقي في كلتا الحالتين بما أن الأدلة المتوافرة الآن، على الأقل بالنسبة لمراقب بعيد مثلي، غير كافية لتحديد الفاعل. لكنّ المدمرين الحقيقيين بنتيجة الأمر هم نحن كلنا، بثقافاتنا المتعادية وخطاباتنا الطائفية ونوازعنا التي لا ترضى إلا أن تستثمر في التاريخ كما لو أنه أداة عقائدية وسياسية في أيدينا نفعل به ما نشاء، نتشارك فيه مع البعض ونحرمه عن البعض الآخر.

كلنا مسؤول عن التدمير الهائل اللاحق بالبلاد وعن تدمير معالمها التاريخية عمداً كما في حالة المأذنتين، أو عرضاً كما في حالة مبانٍ أخرى لا تحصى، وفي شكل خاص تلك التي تنتمي للفترات ما قبل الإسلامية. فنحن كمواطنين وكثقافة لم نرق يوماً إلى مستوى الإحساس بأن تراث بلادنا كله تراثنا وأن المحافظة عليه واجبنا كلنا، وأن التركيز على معانيه السياسية وتقسيمه بين تراث مقبول وآخر مرفوض يستحق الإزالة، إنما يخالف في الآن نفسه المعنى الحقيقي للانتماء للوطن وللمحافظة على التراث. التراث الوطني كل كامل متكامل يصلنا بماضي الأرض التي عليها نشأنا والحضارات التي تتالت عليها والتي كونت ثقافاتنا شئنا أم أبينا. والمحافظة على هذا التراث بكامله، بغض النظر عن حقبته أو بانيه، واجب وطني وأساس من أسس بناء الوطن في الآن نفسه. كلنا مسؤول عن ذلك، وكلنا مسؤول عن التدمير الذي حاق بتراثنا، ببطء وإهمال قبل الحروب الطائفية، وبحقد وضغينة وتشفّ خلال الحروب التي تعاني منها بلادنا اليوم.

يبقى نور الدين، ذلك الأمير المجاهد والمفترى عليه من كارهيه ومحبيه على السواء. قبره في دمشق انتظر طويلاً قبل أن يحصل على بعض العناية. وذكراه أُهملت في الكتب المدرسية ربما بسبب ألق صلاح الدين الذي استكمل جهاده، وربما لأسباب أخرى عرقية أو طائفية أو حتى من منطلق الجهل المعشش في ذاكرتنا الجمعية. لكن نور الدين، على تسننه ومحاربته للتشيع، كان أميراً عظيماً. فهو الذي وضع أسس التسامح السني بسبب من دعمه للتصوف، الذي كان وما زال أفضل ترياق للمغالاة والتشدد، وبسبب من رعايته للمدارس الفقهية كلها على رغم انتمائه للمدرسة الحنفية، كما كل الحكام الأتراك. وهو الذي وضع أسس استراتيجية الاستعادة التي اتبعها الأيوبيون والمماليك من بعده وحرروا سورية من الصليبيين. وهو إلى ذلك كان زاهداً عادلاً ومحنكاً، وهي صفات لا نجدها في أي من حكامنا الحاليين.