أراد حزبُ الله في الثالث والعشرين من شباط الحالي الذي خصَّصه لتشييع قائديه «السيد حسن نصر الله» و«السيد هاشم صفي الدين» يوماً مَشهوداً لتَجديدِ البَيعَة، وقد نجحَ في دفعِ بيئته الحاضنة لتلبيةِ النِّداء، حيثُ بادر مناصروه إلى الحضور إلى مكان التَّشييع «مدينة كميل شمعون الرياضيَّة» قبل التَّوقيت المُحدَّد بساعاتٍ رغمَ موجةِ الصَّقيع التي تجتاح لبنان، وفي الوقت الذي يتطلَّع فيه المُراقبون الدَّوليون والإقليميون والمحليون إلى عودة الثنائي الشيعي «حركة أمل وحزب الله»، وبالتَّحديد الأخير إلى كنفِ الدولة مُتخلِّياً عن توجُّهاتِهِ الإقليميَّةِ أسوةً بباقي المُكوِّناتِ الوطنيَّة، يُلاحَظون إصرارَ قيادات الحزبِ الحاليين على ذات منوال المواقفِ السَّابقةِ، وخاصَّةً لجهةِ تشبُّثِهم بالخَياراتِ العَسكريَّة ورَفضِهِم التَّخلي عن السِّلاحِ لصالِح الدَّولة، مُتجاهلين القرارات الدَّوليَّة، التي التزم بها لبنان، وتنصُّ على حَصريَّةِ السِّلاح بالأجهزة العسكريَّة والأمنيَّة، وتردادهم لمَعزوفَة «سِلاحُ الحزب رهن وجودِ الخطرِ الإسرائيلي».
ويبدو للمُراقب أن الثُّنائي الشيعي وبخاصَّة حزب الله ماضٍ بإصراره على احتكاره تمثيلِ المُكون الشيعي وعلى تغليبِ انتمائه الفئوي المذهبي على انتمائه الوطني، غير عابئ بالإنعكاسات السَّلبيَّة التي تسبَّبَت بها تَوجُّهاته السَّابقة، ولا يتورَّعُ عن إثارةِ مواضيعَ خِلافيَّةٍ في ذروةِ الاستِحقاقاتِ المَصيريَّةٍ، واتِّخاذِ مواقِفَ استفزازيَّةٍ حادَّة، وسُكوتهِ عن سُّلوكياتٍ شعبويَّةٍ فئويَّةٍ غرائزيَّةٍ تُنفِّرُ المُكونات الوطنيَّةِ الأُخرى، وتتظَهَّرُ بين الحين والآخر على صُورِ تَحرُّكاتٍ احتِجاجيَّةٍ على شكل تجمهُراتٍ مُناهِضَةٍ للسُّلطَةِ ومَسيراتٍ يتخلَّلُها الكثيرُ من أعمال الشَّغب، وغالباً ما لا تَخلو من تعدِّياتٍ على الأشخاصِ والأرزاق، كما يتخلَّلُها إطلاقُ مواقفٍ تنطوي على اتهاماتٍ تَخوينيَّةٍ وتعابيرَ مقزِّزَة، وشِعاراتٍ عُنصريَّة على غرار «شيعة شيعَة».
وطِوال الفترةِ التي كان يُشاعُ فيها أن حزب الله يَتحضَّرُ لتَشييع وطني يليقُ برمزيَّةِ أمينه العام السَّابق السيد حسن نصر الله، وتوجيه الدَّعواتِ لشَخصِيَّاتٍ سياسِيَّةٍ من مُختلفِ الأحزابِ والمُكوِّناتِ السِّياسيَّة والطَّائفيَّة، كان البَعضُ يوحي بانقلابٍ على الدَّاخل اللبناني بتِردادِ مَقولةِ «ما بعد التَّشييع ليس كما قبله»، وتزامن ذلك مع خِطاباتٍ سياسيَّةٍ تُعبِّرُ عن مواقفَ مُتشنِّجَةٍ تتضمنُ عباراتٍ استفزازيَّة، وكان آخر إرهاصاتها حصرُ مزايا الشَّرف والكرامَةِ بمن يُشارِكُ في تَشييعِ الأمين العام للحزب وحجبها عن غيرهم؛ كما برزت سُلوكيَّاتٌ ميدانيَّةٌ منفِّرةٌ ومنشوراتٌ تخوينيَّة مُهينَةٌ عبر وسائط التَّواصُل الإجتماعي، ولكن أخطرَها تمثَّلَ في الاحتجاجاتِ التي حصلت على أوتوستراد المطار، حيث أقدم المُشاركون فيها على قطعِ طريق مَطار رفيق الحريري احتجاجاً على منع شركات الطيران من الهبوطِ على مدارجه تجنُّباً لقَصفِها من قبل طيران العدو الإسرائيلي «الذي أوصل تهديداتٍ واضحةً بهذا الخُصوص»، ولم يكتفوا بقطع الطريق إنما اعتدوا على قافلةٍ لقوَّاتِ اليونيفيل بينما كانت تحاول العبور، وتطاولوا على ضبَّاطها وأحرقوا الآليَّاتٍ العائدَةٍ لها، ولم يسلم منهم الضُّباط والعناصرُ العسكريون الذين كُلِّفوا بفَتحِ الطَّريق ووقف تعدِّياتهم. كل تلك السُّلوكياتِ وما سبقها من مَسيراتٍ دراجة «استفزازيَّة» في مناطِقَ وأحياء خارجَ إطارِ إقامَةِ البيئة المناصرة للثنائي المُمانع؛ أوحت تلك السُّلوكيَّاتُ وكأن الأجواء تُهيَّأ للإخلال بالاستِقرارِ الأمني وتعطيلِ المَسار الإصلاحي الذي بدت بوادِرُه مع انطلاقةِ العهدِ الحالي وحكومته الأولى. هذه الأجواء المشحونةُ بالكراهيَةِ غير المُبرَّرةِ دفعت بالكثيرين من المذاهب والطوائف الأخرى إلى الإحجامِ عن المُشاركَةِ في التَّشييعِ، الأمر الذي جعلَ المناسبةَ حدثاً شيعيًّا أفقدَها الصَّبغَةَ الوَطنِيَّة.
هذا المأتمُ التَّشييعي المَهيب الذي نحن بصدده ليس بالمأتم الوحيد، بل هناك مئاتُ المآتم التي جرت بصورة جماعيَّة وأُخرى إفراديَّة، لضَحايا الحربِ الأخيرة مع العدو الإسرائيلي، والتي أُقحِمَ لبنان بها بخيارٍ مُتفرِّدٍ من قيادةِ حزب الله، وربما لم يُرضِ عنه أقرب المُقرّبين «أي قيادةَ حركةِ أمل». ويبدو أن توجُّسَ باقي المُكوناتِ الوطنيَّة من الإنخراطِ في تلك الحرب غير المُتوازنة كان في مَحلِّه، إذ جاءت النتائجُ العسكريَّةُ والجيوسياسيًّة مُزلزلةً، تسبَّبت في خلخلَةِ مُرتكزاتِ الإستقرار في مَنطقَةِ الشَّرق الأوسط، وسرَّعت في انهيارِ حُكم آل الأسد في سوريا، وسرَّعت من وتيرةِ الإنهيار في لبنان.
أتاحت هذه الحربُ اللعينةُ الفرصةَ للعدو الإسرائيلي لتَقويض القُدُرات العسكريَّة لمُكونين أساسيين من مِحورِ المُمانعَةِ وبالتَّحديد مُنظمتي حماس وحزب الله، والقضاء على مقومات الحياة في قِطاع غزَّة تمهيداً لتَهجيرِ ساكنيها من ديارهم، ومسحَ معالمَ الحياةِ على امتدادِ شريطٍ جغرافيٍّ مُحاذٍ للأراضي الفلسطينيَّة، هذا بالإضافةِ لخسائرَ فادحَةٍ في الأرواحِ والمُمتلكات في لبنان، كما أدّى إلى انكسارِ هيبةَ إيران التي بدت عاجزةً عن الدِّفاع عن أذرُعها، كما عن الردِّ على الاستُهداِفاتِ المُهينة التي طالتها.
لقد دخلَ الحزبُ الحربَ بُعيدَ عمليَّةِ طوفان الأقصى استجابةً لتوجيهاتٍ إيرانيّة «كجبهةِ إسنادِ لمُنظَّمةِ حماس»، واعتقد كبار المسؤولين فيه أنها ستبقى مَحكومةً بضوابِطَ مَدوزنة، ولكنَّهم فوجئوا بأنه مُجرَّد أن انتهى العدو الإسرائيلي من تقويضِ قُدراتِ حَماس العسكريَّةِ، حَوَّلَ جهده العسكري إلى الجبهةِ مع لبنان، وبدا منذ السَّاعاتِ الأولى أن الحزب ولبنان بأمسِّ الحاجَةِ لمِن يُساندُهُما، ورغم ذلك وقفت إيرانُ متفرِّجةً مكتفيةً ببياناتِ التَّنديد والوعيد، وتَركت الحزب وحيداً يُجابه آلة الحربِ الإسرائيليَّة، كما تعاملت مع قطاعِ غزَّة من قبل، وجاءت عواقبُ المُساندةِ مخيِّبةً للآمال، بل نزلت وبالاً على الحزبِ أولاً وبيئته ثانياً ولبنان ثالثاً وامتدَّت آثارُها السَّلبيَّةُ للمِنطقَةِ بكُلِّيتها.
أدرك حزبُ الله خطأ قراره الإنخراطِ في الحرب بعد فواتَ الأوان، وحيثُ لم يعد بمُستطاعهِ الخروج منها ولو بجراحٍ بليغة، لأن العدو أبى أن يوقف أعماله الحربيَّة إلَّا بعدَ إخراجِ الحزب من المُعادلة؛ وقادةُ الحزب يدركون اليومَ أكثر من غيرهم أنه لم يعد بإمكانهم التَّغافلُ عن نتائجِ الحربِ الكارثيَّة، ويدركون أيضاً أنه غير قادرٍ على تحمُّلِ تبعاتِها، وأن إعادةَ البناء وترميمِ المنازلِ وما تبقّى من بنى تَحتيةٍ يفوق قُدراتِ الدَّولَةِ اللُّبنانيَّة وهي بأحسن حالاتها الاقتصاديَّة والماليَّة، فكيف الحالُ في ظلِّ انهيار ماليٍّ واقتصادي وعزلة دوليَّة، ولكونِ كلفةِ إصلاحِ ما تهدَّم باهِظَة ويتطلَّبُ إمكاناتٍ دوليَّة تفوقُ قدرات إيران الغارقةِ بمَشاكِلِها الاقتصاديَّةِ والمعيشيَّة، ويدركُ قادة الحزب أيضاً أنه لم يعد بالإمكان التَّلاعبِ على نُصوصِ القرارات الدَّوليَّة والإستمرار في القفزِ فوق نُصوص الدستور أو تعطيلها، كما يعون أنه لم يعُد من صالِحِهم التَّطاول على رموزِ الدُّول العربيَّة والاستمرار بمناصبتها العداء خِدمةً للمَصالِح الإيرانيَّة. وغالبُ الظَّنِّ أنهم أمسوا مقتنعين أنه لم يعد بإمكانهم التَّلويحِ بخوضِ حربٍ مع العدو الإسرائيلي بعد أن أدركواِّ مؤخَّراً حجمَ الدَّعم الغربي اللّاَمحدود الذي يلقاه والغطاءُ المؤمَّنُ لارتكاباته الشَّنيعة.
كل ذلك يدعونا للقول: أن مِحورَ المُمانعة مدعوٌ لإجراء تقييمٍ شاملٍ للأحداث السَّابقة التي قلبت الموازين رأساً على عَقب، ورجَّحت كَفَّة المَوازين العَسكريَّة لصالحِ العدو الإسرائيلي وغلَّبت خياراتِه في منطقةِ الشرق الأوسط، بعد أن خَلت له الأجواءُ والسَّاحات وأصبح بإمكانه أن يعبثَ حيث يشاء.
وحزبُ الله، بدوره، مدعوٌّ أيضاً لإجراء عمليَّةِ تقييمٍ ونقدٍ ذاتيين، بغرضِ المُفاضلةِ ما بين ارتباطاتِهِ الخارِجيَّةِ التي تدفعه للاحتِفاظِ بقُدراتِه العسكريَّةِ، وانتمائهِ الدَّاخلي الذي يوجبُ عليه تسليمَ أِسلحتِهِ للدَّولة قبل أن يُدَمِّرَها العدو الإسرائيلي وهي في المَخازن، وعلى قادته ألًا يستمروا بمناوراتهم الإنكاريَّة وإلقاء تبعةِ خياراتِهم على الدَّولةِ اللبنانيَّة. وفي المُقابل على المسؤولين في الدَّولةِ أن يفوّتوا على إيران فرصَةَ التَّنصُّل من مسؤولياتها تجاه لبنان، والتَّظاهرِ بأنها عازمةٌ على إعادةِ الإعمارِ والتَّعويضِ على المُصابين والمُتضرِّرين إلَّا أن الدَّولة اللبنانيَّة حالت دون ذلك؛ وعلى المسؤولين اللبنانيين إبلاغ نظرائهم في إيران أن طريق تلقي المُساعداتٍ مَفتوحٌ عبر الأطر الدبلوماسيَّةِ وأن من سيتولى صرفَ المُساعداتِ هي الدَّولةِ اللبنانيَّةُ بإداراتها ومؤسساتها العامَّة، وأنها ستُخصَّصُ حصراً لإعادة بناء ما تهدَّم وترميم الأضرار التي تسبَّبت بها التَّوجُّهاتُ الإيرانيَّة، وإنه إذا كانت إيران جادَّة في عرضها لجهةِ مُساهمتِها في عمليَّةِ إعادةِ الإعمار، فما عليها سوى إيداع ما تنوي تقديمه لدى الدَّولة اللبنانيَّة؛ وأن أيَّ مُحاولةٍ لتهريبِ الأموال لأيَّةِ جهةٍ في لبنان يبقى عملاً محظوراً وينطوي على نوايا مشبوهةً، ويشكِّلُ تدخُّلاً سافراً في الشؤون الدَّاخليَّة اللبنانيَّة.
وثمَّةَ من يسأل، ماذا أرادَ حزب الله ومن خلفِه إيران من وراء حثِّ الجمهور الشيعي على المُشاركة في التَّشييع، واعتبارهم الدَّعوةَ من قبيلِ التَّكليف الشرعي؟ أهو عرفانٌ بالجميل لمن أعلى من دور المكوّن الشيعي في لبنان وأعطاه بُعداً إقليميًّا رغمَ خسارته للحرب التي كلَّفته حياته وحياة الكثيرين من مناصريه؟ أم من قبيل إنكار نتائج الحرب والإيحاء بأن الحزب لم يزل قادراً على القيامِ بدوره المرسوم إيرانيًّا، أم تجديد البيعةِ لإيران وبالتالي امتناعُه عن التَّخلي الطَّوعي عن السِّلاح؟ وأخيراً هل المقصود إعلان انضواء الحزب تحت مظلَّةِ الدَّولةِ اللبنانيَّة والإلتزام بروحيَّة القرارات الدَّوليَّة التي تعني لبنان وفي طليعتها القرارين 1701 و1559؟ وأنه جاهزٌ لوضع ما لديه من أسلحة بتصرُّف الجيش اللبناني؟ هذه الأسئلة ستبقى محوريَّةً إلى أن يعلنَ كبارُ المسؤولين في الحزب موقفاً واضِحاً منها.
لقد آن الأوان لأن يعي قادةُ الحزب أن الظُّروف الدَّوليَّةَ والإقليميَّةَ والوطنيَّة قد تبدَّلت على ضوء التَّغيُّراتِ التي أحدثتها الحرب التي قوَّضت مُرتكزاتِ الإستقرارِ التي كانت قائمَةِ في منطقَةِ الشَّرق الأوسط، وأن عمليَّةَ التَّحول لم تنتهِ بعد، وأنها لن تكون لِصالِح إيران ولا محورِها المثير للقلاقل. وأنه فيما لو كانوا جادّين في سعيهم لإعادة إعمار ما تهدَّم في لبنان، فعليهم الانصياع إلى روحيَّةِ القرارات الدَّوليَّة، وإعادة التَّموضع والإنضواء تحت سقف الدَّولة الذي يتَّسِع لجميع اللبنانيين، والتَّكيُّفِ مع الواقِع الجديد، وحصرِ دورِ الحزبِ وأدائه بالاهتماماتِ الوطنيَّة، وفي حدودِ النصوص الدُّستوريَّة ووفق القواعِد الديمقراطيَّة، والتَّصرُّف باعتباره مُكوّناً لبنانيًّا أسوة بباقي المُكونات التي يتشارك معها الانتماء للبنان، وعندها سيكون مُرحّباً فيه.