وحدة المسار الأسطوري والمصير التاريخي
إن كان تشييع الأمين العام لـ “حزب الله” السابق، حسن نصر الله، يمثل في نظر شريحة واسعة بداية نهاية حقبة هيمنة السلاح، فإنه بالنسبة لمفكري “الحزب”، مناسبة لصناعة أسطورة تستمد وهجها من قدسية الشهادة عند المسلمين، ومركزيتها في التراث الشيعي منذ مقتل الحسين بن علي، حفيد النبي، في “كربلاء”، والذي تحول إلى محطة تمأسست حولها “العصبية الشيعية”.
بيد أنه في سيرة نصر الله ما يجعله كثير الشبه بأنموذج شيعي آخر، إنما إسماعيلي، وهو زعيم طائفة “الإسماعيلية النزارية”، الحسن بن الصباح الحميري، والذي يتشارك معه الاسم، وصفات كثيرة، أهمها القداسة عند الأتباع حدّ تقديم الأرواح فداء، وحتى كذلك في الإشاعات التي التصقت بكل منهما.
واقع الأمر أن النظام الذي أقامه آيات الله في إيران، ارتكزت دعائمه على إرث الدولة الصفوية، ومن قبلها دولة الصباح في قلعة “ألموت”، والتي تعني “عشّ النسر” بالفارسية، وكان من الطبيعي أن تُستلهم هذه الأسس في عملية تكوين “حزب الله”، ابن الملالي البار.
أتى الصباح من مكان بعيد دينياً واجتماعياً، وأنفق سنوات يجتهد في الدعوة إلى العقيدة الإسماعيلية، إلى أن تمكن من الاستيلاء على “ألموت” عام 1090 وتكوين قاعدة لنشر دعوته. ثبّت دعائم دولته وسط بحر السنّة بالدم، مقتحماً بها أبواب التاريخ بفعل “استراتيجية ردع” غير مألوفة في ذاك الزمان، قوامها الاغتيال الانتقائي للشخصيات البارزة في صفوف خصومه من دول وجماعات، عوض المعارك التقليدية.
أسّس فرقة فدائيين تمرست في فنون التنكر والفروسية واللسانيات واستراتيجيات القتل، وبثّت الرعب إلى درجة ساد معها تصور بأن الهدف الذي يتم تحديده “كان رجلاً ميتاً يمشي”، وأكثر ما كان يميزها استعداد أفرادها للموت في سبيل قضيتهم وزعيمهم، تماماً مثل نصر الله وحزبه.
ونزيدكم من الشعر بيتاً، أنه كانت هناك لوائح شرف بأسماء الفدائيين وبمهمات الاغتيال التي نفذوها يجري تصنيفها وحفظها في “ألموت” وقلاع أخرى. ينقل المؤرخ الإيراني فرهاد دفتري في كتابه “خرافات الحشاشين وأساطير الإسماعيليين” أن “أمهات الفدائيين كنّ سعيدات في توقهن لأن يصبح أبناؤهن شهداء ويدخلون الجنة بهذا الشكل”.
لذلك لا يزال ذكر الصباح يستحضر كرجل دموي، ولا سيما بعدما اغتال فدائيوه أبرز رجالات زمنه من خلفاء وملوك ووزراء ورجال دين. في طليعتهم الوزير السلجوقي نظام الملك، والذي كان رجل دولة وسياسة محنك، لدوره في محاربة هذه الجماعة الدموية بالعلم وتأسيس المدارس والمعاهد التي درّس فيها علماء وفقهاء وفلاسفة بارزون، بما يذكرنا باغتيال رفيق الحريري لما يمثل من مشروع نهضة عمرانية وعلمية، شكلت حجر عثرة في وجه مشروع “حزب الله”، فكان لا بد من التخلص منه.
منهم “حجة الإسلام” أبو حامد الغزالي، الذي كان من أوائل من تحدث عن مفهوم “الولاية” المعتمد من قبل الصباح لتسويغ زعامته بعدما دخل الأئمة في “حال الستر”. يقول في كتابه “المُستظهري”: “لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يُرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات”. وهي القاعدة نفسها التي اتبعها ملالي إيران لإنشاء مقام “المرشد” كنائب عن “الإمام الغائب” يتمتع بصلاحيات سياسية – دينية “فوق العادة”.
جذبت دعوة الصباح العديد من النخب السنية الساعية نحو المال ومواقع سلطة وإمارة، كما هي حال “الحزب”. وعلى عكس ما ترسخ عنه في الأذهان من استخدام الحشيش للسيطرة على جماعته، بفعل روايات سطّرها المستشرقون وفّرت تفسيراً منطقياً لتضحيات فدائييه ووظفت عربياً للحط من قدره.
يذكر المؤرخون أن الصباح كان استراتيجياً وإدارياً ومفكراً في آن معاً، عاش حياة من الزهد الشديد، وحرص على تطبيق مفاهيمه الشرعية وضوابطه بشكل صارم، ولم يبرح “ألموت” منذ سيطرته عليها حتى وفاته بعد 35 عاماً، كما هي حال نصر الله تقريباً، مع فارق أن قضية الحشيش في حالة “الحزب” مثبتة في لبنان والعديد من الدول وليست أسطورة.
بعد وفاة الصباح، حوّل أتباعه ضريحه إلى مزار مقدس، إلى أن أتى القائد المغولي الشهير هولاكو، وأنهى دولة “ألموت” وجرف الضريح الرمز في طريقه، وليس من حائل في أن يحذو نتنياهو حذوه. لكن رعب الأسطورة استمر عقوداً أخرى، وخصوصاً في الشام، حيث برز شيخ الجبل الحقيقي، سنان راشد الدين، الذي تابع سياسة الاغتيالات، منها محاولتان لاغتيال القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي.
ينقل المؤرخون رسالة تهديد أرسلها الأيوبي إلى شيخ الجبل، رد عليها الأخير برسالة نورد بعضاً منها “إننا مضطهدون ولسنا طغاة، محرومون ولسنا حارمين، وأنت تعرف قدر رجالنا وما يمكن أن يحققوه في لحظة واحدة وكيف يحبون الموت… عندما تقرأ خطابنا هذا فارتقبنا وترحم على نفسك واقرأ أول (سورة) النحل وآخر (سورة) صاد”.
هو الخطاب المشبع بالتهديد والوعيد نفسه الذي لم يفد صاحبه وجماعته في شيء بعدما توارى ذكرهما ومعهما الحسن الصباح في غياهب التاريخ، ما خلا المرويّات السوداء لنماذج ظلامية. وبالتالي عوض تحويل تشييع نصر الله إلى أسطورة ملحمية يلتحف بها جمهور “الحزب” للتخفف من وقع الانكسار الصادم، من الضرورة بمكان الاتعاظ مما سبق، لمعرفة المصير المحتوم إذا ما استمرت المكابرة، علّ ذلك يعين على الاستيقاظ من الغفلة العميقة، ويسرّع الالتحاق بركب الدولة قناعة بأنها وحدها فقط من تشكل الملاذ الآمن مهما تبدل قادتها.