لم يكن لبنان يوماً جزيرة معزولة عن محيطه، سواء شارك «حزب الله» في القتال في سوريا أو بقي بعيداً عن نيرانها. وعلى مرّ السنوات والعهود، لم تجد دعوات «التحييد» و«الحياد» و«النأي بالنفس» عن صراعات «الجيران» ممراً تنفيذياً يقي مساحة الـ10452 كلم2 شرّ الويلات الخارجية، ولطالما تأثرت بكل تطور ميداني أو سياسي جرى من حولها.
بهذا المعنى تأتي تحذيرات وزير الداخلية نهاد المشنوق «مما هو أعظم». لا يعني ذلك أبداً أنّ الساحة اللبنانية مقبلة على موجة من الغليان الأمني قد يفلت من قبضة المؤسسات المعنية، بقدر ما يؤشر إلى خوف من انعكاسات سلبية سيظهّرها المسرح الداخلي على خلفية أحداث متلاحقة قد يشهدها «مربع النيران»، بدءاً بسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن والبحرين.
ثمة معطيات جديّة على مكتب وزير الداخلية تنذر بأحداث ميدانية قد تحصل على أرض سوريا الملتهبة، كما جارها العراقي، بفعل الاشتباك الإقليمي، ما سيؤدي حكماً إلى مزيد من التوتر السياسي على المشهد اللبناني، الواقف أصلاً على حافة الهاوية. فلبنان في قلب المنطقة، وليس على هامشها أو طرفها كما يعتقد البعض. وبالتالي هو عرضة للتأثر في أي لحظة.
ومع ذلك، يتقاطع هذا الكلام مع مراجعة لبعض المستقبليين تبدأ من قلب بغداد، وتحديداً من لحظة خروج القوات الأميركية التي أنشأت الصحوات العراقية وقوامها نحو 80 ألف شخص بهدف محاربة «القاعدة». وبعد الانتهاء من هذه المهمة قامت السلطات العراقية بوقف رواتب مقاتلي الصحوات وملاحقة قادتهم، حيث كانت النتيجة دخول «داعش» السهل إلى بلاد ما بين النهرين بعدما وجدت بيئة «متفهّمة» لها.
وتمرّ المراجعة على الوضع السوري حيث يعجز النظام حتى اللحظة عن إيجاد شريك سني قادر على التفاهم معه، رغم كل الدماء التي سفكت والمعارك التي خيضت.
أما في لبنان فقد أعيد «تطريز» حكومة ائتلافية بعد مرحلة من الإقصاء لـ«تيار المستقبل»، أفضل ما يمكن أن تقوم به هو إدارة الهدنة خلال المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها المنطقة، وهي أشبه بمخاض عسير، من الصعب التكهن بصحّة المولود الذي سيخرج به.
ويتوقف هؤلاء عند نقطة مفصلية في مسار «تيار المستقبل» يوم قرر الخروج من سوريا مع تسجيل رئيسه سعد الحريري اعتراضه على شكوى «الائتلاف السوري» على أداء الجيش اللبناني. كان موقفاً واضحاً وصريحاً بأنّ ثمة نيّة جديّة للفصل بين الجارين، وبالتالي فصل المسارين لإعطاء الأولوية للشأن اللبناني بعدما امتدت النيران إلى داخل البيت.
إلا انّ هذا الفصل قابله مزيد من الالتزام والانحراط والتأكيد العلني من جانب «حزب الله» لما يقوم به عسكرياً، سواء على الساحة السورية أو الساحة العراقية، حيث لا تزال هذه النقطة مسألة خلافية بين الفريقين.
ومع ذلك، تبيّن أن ثمة فسحة للحوار، بتأكيد القيادتين، من جانب «المستقبل» كما «حزب الله»، مع العلم بأنّ شريط المواقف دل على أنّ معدة القيادات الوسطية لهما بدت كأنها بحاجة إلى معالجة لهضم هذا التطور، من دون أن يعني ذلك غياب عوامل التعطيل بعدما أثبتت التجارب أنّ هذه «الصواعق» موجودة دوماً وقد تنفجر في أي لحظة.
من هذا المنطلق بالذات، رفع وزير الداخلية معادلة: تماسك وطني، احتراف أمني، وشجاعة فقهية لدى رجال الدين في سبيل مواجهة الأخطار الداهمة، لإيمانه بأنّ هذه المهمة لا تقوم بها جهة واحدة، وإنما تتطلب تضافراً سياسياً ــ أمنياً ــ فقهياً.
وعلى هذا الأساس، تؤكد الشخصية المستقبلية المؤيدة للحوار أنّ هذا التواصل المباشر بين «المستقبل» و»حزب الله» سيحصل، عاجلاً أم آجلاً، لا بل تكاد تجزم أنه سيحصل خلال الأسابيع المقبلة، وفق قاعدة ثنائية: تحديد نقاط الخلاف من باب تحييدها، والبحث في مسألة رئاسة الجمهورية.
فالحوار بنظرها ضرورة وطنية، لأن كل الأطراف متورطة وخاسرة في هذه اللحظة السياسية العصيبة. قد يكون أصعب من السابق، لكنه أصبح ضرورة أكثر من السابق، وليس بين غالب ومغلوب، وإنما بين مغلوب على أمره ومغلوب على قدره.
كما أنّ غياب البدائل، يزيد من فرص التلاقي أو التقاطع، حتى لو كان هذا الأمر قد يخسّر «المستقبل» في السياسة، أو حتى قد تكون احتمالات خروجه بنتائج، ضعيفة.
وفق قراءة هذه الشخصية، فإنّ الأجواء حاضرة للدخول في عمق الرئاسة، لا سيما أنّ اعتراف العماد ميشال عون العلني بأنّ ثمة «فيتو» سعوديا على ترشيحه، يعني عملياً تأكيد خروجه من حلبة السباق، وفتح باب النقاش على خيارات أخرى. كما أنّ الدكتور سمير جعجع أعلن مراراً وتكراراً أنّه مستعد لسحب ترشيحه لمصلحة التوافق. بالنتيجة، يمكن الشروع في نقاشات جدية حول خيار ثالث.
طبعاً، لا تنكر الشخصية ذاتها وجود معوقات داخلية وخارجية، منها على سبيل المثال: طلب الرياض من مجلس الأمن إصدار قرار يضع جميع الجماعات والتنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا على قائمة العقوبات بما فيها «ميليشيات حزب الله»، اختلال الخطة الأمنية، الشهادات السياسية من على منبر المحكمة الدولية، إلا انّ قراراً من هذا النوع يحتاج إلى شجاعة سعد الحريري، لضمان الحفاظ على الاستقرار الداخلي في المرحلة الانتقالية، واقتناص ولو فرصة ضعيفة لانتخاب رئيس للجمهورية