IMLebanon

معادلات جديدة لإيران قديمة

 

 

محقٌّ من عدّ مقتل قاسم سليماني مفاجأة السنة الجديدة كونه أسقط المعهود من قواعد الاشتباك بين واشنطن وطهران، وجاء خارج سياق ما عوّدتنا عليه سياسة الإدارة الأميركية الحالية من تجنب الردود العسكرية واعتماد أقصى حدود ضبط النفس، حتى مع بلوغ الاستفزازات الإيرانية ما بلغته منذ شهر مايو (أيار) الماضي، لتصل إلى ذروتها مع محاصرة السفارة الأميركية في بغداد.

فالكثيرون من المحللين والمتابعين يشعرون بالحيرة إزاء سياسة هذه الإدارة تجاه طهران، لأنها في الوقت الذي اعتمدت فيه سياسة أقصى العقوبات ضدها لم تواكب وتسند هذه السياسة بإجراءات الردع اللازمة. فتجنُّب الانزلاق إلى حرب مباشرة واسعة مع إيران كان يقتضي اعتماد مقاربة ردع فعالة تسير خطوة خطوة مع العقوبات.

ما حصل هو عكس ذلك تماماً. فتكرار الرئيس دونالد ترمب عبر تغريداته وبعض قراراته غير المتماسكة رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من المنطقة، وأبرزها قرار سحب الوجود العسكري الأميركي المتواضع في سوريا، إضافةً إلى المواقف المرتبطة بحماية الملاحة البحرية في مضيق هرمز وطلب واشنطن من الدول المعنية حماية سفنها… دفعت إيران إلى رفع وتيرة استفزازاتها علّها تعزز نفوذها وموقعها التفاوضي.

فما الذي غيّر قواعد المعادلة السابقة ودفع الرئيس ترمب إلى القيام بما رفضته إدارتا حرب سابقتان، وهو القضاء على سليماني؟ بين قرارات الرئيس ترمب المفاجئة وميل إيران إلى الممارسات المحفوفة بالمخاطر هل ستصبح المواجهة العسكرية المباشرة مستقبلاً العنوان الرئيس للعلاقات المشدودة بين واشنطن وطهران؟

الإجابة الأكثر رجحاناً عن السؤال الأول هي أن تصاعد وتيرة التجاذبات والتوتر في العراق بعامة ومناطقه الشيعية بخاصة جراء الاحتجاجات الشعبية وما ظهر خلالها من مناهضة لما وصفه المحتجون بأنه «احتلال» إيراني وصلت إلى حد حرق قنصليتين إيرانيتين وحرق صور أركان نظام الملالي، شكل ضغطاً غير مسبوق على الحكم في إيران. يضاف إلى ذلك ضغط الاحتجاجات الشعبية الداخلية في أكثر من 20 مدينة إيرانية سقط إثرها مئات القتلى واعتُقل آلاف المتظاهرين. بموازاة ذلك كثفت إيران من حدة استهدافها لمواقع وجود القوات الأميركية والدولية في العراق ما استدعى رداً أميركياً بقصف مواقع «كتائب حزب الله» في العراق وسوريا، فردت إيران بقرار متسرع وغير محسوب التداعيات وتوقيت غير مدروس بمحاصرة السفارة الأميركية في بغداد، ودكّ أسوارها وتهديد الدبلوماسيين فيها.

الغطرسة الإيرانية لم تأخذ بعين الاعتبار أمرين: الأول هو الرمزية التي يحملها حصار السفارة الأميركية في بغداد لجهة التذكير بحصار السفارة الأميركية في طهران عام 1979 لمدة 444 يوماً واحتجاز 52 رهينة، والثاني هو توقيت هذه الخطوة مع انتقال إجراءات محاكمة الرئيس ترمب إلى مجلس الشيوخ ودخول البلاد عام الانتخابات الرئاسية. كل ذلك دفع الإدارة إلى تقديم روزنامتها والقيام بعمل وقائي استباقي يجهض أو يردع هجمات إيرانية محتملة ضد أهداف أميركية قد تؤثر سلباً على حظوظ الرئيس ترمب في الفوز بولاية ثانية، دون أن ننسى أنها تثبت بهذه العملية لحلفائها في المنطقة المتضررين من التمدد الإيراني أن الردع الأميركي لا يزال فعالاً.

إلى ذلك، مقاربة إدارة الرئيس ترمب لمسألة الإرهاب نسفت تلك التي اعتمدها الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي كانت تميز بين الإرهاب السني والإرهاب الشيعي معتبرةً الأول متفلتاً وغير متعقل ولا رأس يسيطر عليه ومن هنا ضرورة مكافحته، والثاني منضبطاً ومتعقلاً ولديها القدرة على مخاطبة جهة واحدة معنية به قادرة على التحكم به. أما إدارة ترمب، فقد عدّت أن الإرهاب بشقيه السني والشيعي وجهان لعملة واحدة، لتذهب أبعد من ذلك متهمةً إيران برعاية الإرهاب في العالم وتحملها كامل مسؤولية استشرائه.

وعلى عكس الإدارة السابقة التي تغافلت عن الممارسات الإيرانية القمعية والتدخلية بهدف التوصل إلى اتفاق نووي أعادت إثره لإيران مليارات الدولارات ما لبثت أن أنفقتها على تمويل وتسليح وتدريب وكلائها في الإقليم، وازت إدارة ترمب بين خطر إيران النووي وخطر طموحاتها التوسعية، فانسحبت من الاتفاق النووي لصالح التوصل إلى اتفاق أشمل يتضمن مكابح تلجم الممارسات الإيرانية في المنطقة، واعتمدت سياسة العقوبات القصوى ضد إيران وأدرجت أذرعها على لائحة الإرهاب دون أن تستثني «الحرس الثوري» الإيراني، فجاءت عملية مقتل سليماني في صلب هذه الرؤية الأميركية الواضحة للدور الإيراني، وتتمّة لتصفية كبار قادة الإرهاب من أسامة بن لادن إلى أبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي.

وبمعزل عن شرور الاغتيالات السياسية بخاصة والعنف بعامة، كان على الولايات المتحدة توجيه ضربة موجعة إلى طهران، في إطار رعايتها للإرهاب للحد من غطرستها من جهة ولتصويب ميزان القوى في النزاع الاستنزافي من جهة أخرى، فكان سليماني الهدف الأبرز وهو الذي لطالما وُصف بالمفوض السامي الإيراني في «مستعمرات» إيران في المنطقة، والعقل المدبر وراء تنفيذ مشروعها التوسعي فيها.

ومع ذلك وجواباً عن السؤال الثاني، فإن تغيير واشنطن قواعد اللعبة أو آليات الاشتباك في هذه العملية بالذات، لا يعني بالضرورة أنها غيّرت أهدافها وباتت تسعى إلى حرب مباشرة ضد إيران أو تغيير نظامها أو تفجير الأوضاع الداخلية فيها. فكل ذلك لا يخدم أي جهة أميركية أو إيرانية أو غيرهما، وهذا ما أكده الرئيس ترمب بعد رد إيران على مقتل سليماني بقصف قاعدتين عراقيتين تتمركز فيهما قوات أميركية، داعياً إلى التعاون في الحرب على «داعش» في إشارة لافتة ودعوة صريحة لإيران للإقلاع عن سياساتها والانتقال إلى نادي الدول الطبيعية.

وما يحدّ أيضاً من احتمال اندلاع حرب شاملة هو ردود الفعل الدولية على مقتل سليماني التي جاءت باهتة قياساً إلى حجم العملية ولدوره المرجعي بالنسبة إلى إيران والمنطقة بعامة، بدءاً من موسكو التي قد تكون تخلصت من شريك مزعج في سوريا إلى الصين المنشغلة بالاتفاق التجاري مع أميركا إلى أوروبا التي بدت غير بعيدة عن توجهات واشنطن، وصبّت اهتمامها على احتواء تداعيات هذا الحدث.

يبقى أن تداعيات العملية في إيران عززت دور المتشددين، وبات صعباً على أي مسؤول إيراني حتى الحديث عن مفاوضات مع أميركا، أقله في المستقبل القريب.

لن تستقيم الأمور سريعاً وستحتاج ذيول عملية الاغتيال إلى وقت لاحتوائها، لكن لا حرب شاملة على الأبواب. من المرجح أن نشهد ردود فعل عليها من الميليشيات الحليفة لإيران وأذرعها في العراق وسوريا ولبنان وربما اليمن، وذلك لأسباب كثيرة أبرزها محدودية قدرة إيران على الرد على واشنطن بعملية مكشوفة توازي بحجمها مقتل سليماني. كل ذلك يُبقي النزاع الإيراني الأميركي في المنطقة الرمادية، إنما مع تصاعد المواجهة بين المناهضين والموالين للنظام الإيراني في الداخل وفي دول الإقليم، وفق ما ذكرناه في هذه الزاوية من صحيفة «الشرق الأوسط» تحت عنوان: «إيران 2019 من قمة الغطرسة إلى مؤشرات التفسخ».