IMLebanon

تصويب البوصلة قبل الحكومة والمبادرات

 

 

هل اعتذار سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة اللبنانية بعد ما يقارب التسعة أشهر على التكليف سيؤجج الأزمة في لبنان أم أنه لن يقدم ولن يؤخر باعتبار أنه حتى لو قدر له تشكيل الحكومة العتيدة، لن تكون هذه الأخيرة أكثر من جرعة أكسجين ستمدد حال الاحتضار اللبناني بانتظار متغيّرات أكثرها مفترضة؟

في الواقع، يصعب تصديق أن تشكيل حكومة هو الدواء الشافي لما يعيشه لبنان ولما آلت إليه أحواله على الصعد كافة، كما يصعب تصديق أن بلداناً كبرى دولياً وإقليمياً صديقة للبنان كفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا ومصر وغيرها في المنطقة، مقتنعة بذلك وبأنها تسعى فعلياً لحل الأزمة من جذورها وليس فقط إلى «مداواة الجروح»، ويصعب أيضاً تصديق القدرة «الخارقة» في تعطيل مبادرات هذه الدول ومواجهتها التي هبطت على فريق السلطة المعلن في لبنان.

ولعل الاعتذار، رغم حجم الدعم الذي حصل عليه الحريري، يكشف أن لبنان يعاني من مرض عضال مستعصٍ يجعل التوصل إلى حلول ناجعة ومستدامة ومتوازنة دونه عقبات كثيرة، ويؤشر إلى أن هذه الدول الكبرى إما أنها عاجزة عن تخطي هذه العقبات أو غير راغبة في ذلك أو في الأمرين معاً.

الأبرز في هذا الضجيج الدولي حول لبنان هو محاولة حث المملكة العربية السعودية للعودة إلى لبنان مجدداً ولعب دور فاعل في حل أزمته، أفشى بها حراك مستجد بدءاً باللقاء الذي عقد في بكركي حول مائة سنة من العلاقات بين البطريركية المارونية والسعودية، ثم زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى المملكة في ترجمة للقاء روما الذي جمع وزراء الخارجية الأميركي والفرنسي والسعودي، وزيارة السفير السعودي إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في معراب بعد لقاء مع غرفة التجارة في بيروت.

هذا الحراك أكد اختلاف مقاربة السعودية للأزمة اللبنانية عن مقاربتي أميركا وفرنسا لها، وهو اختلاف ليس على الأهداف المرجوة بل على أصل الأزمة وجوهرها وترتيب الأولويات للتوصل إلى حل ناجع لها. ويبدو أن اعتذار الحريري جاء ليثبت أن التشخيص السعودي لما يجري في لبنان هو الأصح والأوضح.

واشنطن وباريس تدركان خطورة الانهيار الذي وصل إليه لبنان، وتجهدان لوضع حد له عبر مساعدات إنسانية أولاً ومالية واقتصادية ثانياً، مدخلها تشكيل حكومة تعيد إلى لبنان بعضاً من الحياة بانتظار ما ستؤول إليه أمور الداخل وتطورات الإقليم. وهما تدركان أيضاً من دون أوهام أو التباس أن أصل معاناة البلاد هي سطوة «حزب الله» ومن خلفه راعيته إيران واستعصاء معالجة المشكلة التي يجسدها، أو لنقلها صراحة، عدم رغبتهما في مواجهتها أقله في هذه المرحلة.

ففرنسا لها مصالحها الاقتصادية مع إيران وغير مستعدة راهناً للتضحية بها وتعوّل كثيراً على مفاوضات فيينا وتلعب دوراً مهماً في محاولة إعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي. لذلك، أي مواجهة مع طهران أو أحد وكلائها في الإقليم ليست حالياً على الرادار الفرنسي بل ما يجري هو العكس، أي محاولات مد خيوط مع هؤلاء، ويحضرنا كلام رئيس كتلة المقاومة والتحرير محمد رعد إلى إذاعة النور مع ندرة كلامه هذه الأيام، عن علاقات الحزب الدافئة مع فرنسا وكأنه يلمح إلى اتصالات جارية بينهما لم تلبث زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل «الودية» له أن أكدتها.

أميركياً، ثمة سببان وراء عدم رغبة أميركا في مواجهة «حزب الله» خارج إطار بعض من عقوبات، أولها مفاوضات فيينا التي ما دام أنها مستمرة سيصعب على واشنطن مواجهة راعيه الإيراني، وثانيها دخول هذا الموقف في الإطار العام للسياسة الأميركية في المنطقة وهي الانسحاب، وأبلغ وأحدث تعبير عنها هو انسحابها من أفغانستان. وما دام وضعت مواجهة «حزب الله» وراعيته طهران على الرف، ستنحصر محاولات الإنقاذ بالمسكنات والضمادات والنزر اليسير من المساعدات لاحتواء نتائج الانهيارات الحاصلة، من دون المساس بصلب المشكلة، وهو سيطرة الحزب على صناعة القرار اللبناني وهيمنته على البلاد بأسرها.

ومع ذلك، تحاول باريس وواشنطن إعادة التوازن إلى الساحة اللبنانية وتعتقدان، وعن حق، أن ذلك لن يتم إلا عبر عودة الانخراط السعودي في لبنان، وهو انخراط يؤمن الغطاء السني المطلوب للحكومة العتيدة ويدعم الطائفة السنية بخاصة والمحور المواجه لإيران بعامة في البلاد بطوائفه كافة، ويحد من الاحتقان السني – المسيحي الذي يشعله «حزب الله» وحليفه التيار الوطني، هذا إضافة إلى دعمها المالي والاقتصادي المرتجى.

لكن الموقف السعودي يختلف عن الموقفين الفرنسي والأميركي؛ إذ يعتبر أن الحلول الآنية فقدت صلاحيتها وليست سوى قنابل موقوتة. فتغطية الحكومة العتيدة والمعالجات عبر الضمادات والمساعدات الإنسانية وجرعات الأكسجين الاقتصادية والمالية لن تصب إلا في صالح «حزب الله»، وبالتالي لن تحل المشكلة بل ستمددها وتفاقمها.

إن المقاربات الغربية للأزمة اللبنانية كرّست منذ التسعينات معادلة لحلول مؤقتة تقوم على تأمين الدعم المالي والاقتصادي من الخليج، وترك إدارة السياسة لمحور سوريا وإيران. وبالمباشر، ترفض المملكة اليوم السير بهذه المعادلة، ويمكن في هذا الإطار تفهّم موقفها من تكليف الرئيس سعد الحريري بأنه ليس قضية شخصية أو مزاجاً. فالمشكلة ليست في الحريري بل تطال أي شخصية أخرى تكلف في ظل الإبقاء على الوضع السياسي كما هو عليه أي تحت الهيمنة الإيرانية.

باختصار، لا تريد المملكة بعد الآن تغطية الدور الإيراني في لبنان، ولا تريد نسيان الطعون التي تلقتها من بعض اللبنانيين وبلغت أوجها في التسوية الرئاسية التي أقدم عليها الحريري وبعض الحلفاء عام 2016، هذا عدا عن كون المملكة منشغلة بمشاكل إقليمية أكبر تطال أمنها القومي، إنما لبنان الذي فقد دوره بسبب الهيمنة السورية وبعدها الإيرانية وزواريبه الداخلية ورعونة سياسييه، ليس على رأس جدول أعمال هذه المحادثات.

في المحصلة، لا بد من الاعتراف أن الاهتمام الدولي والإقليمي بالشأن اللبناني يغلب بأشواط الأدوار اللبنانية الداخلية، وهذا عنصر أساسي من عناصر الأزمة. فاللبنانيون منشغلون إما بتوزيع الأدوار أو المناصب والصفقات، وإما بمشاريع حلول متخيلة وغير واقعية ولا تمت بصلة إلى البلد، وإما بالتغاضي عن القضية الأساسية وهي قضية اختطاف الدولة من قبل «حزب الله». هذه النقطة الأخيرة بالذات تفسر موقف الرياض وحذرها من الانخراط أكثر في الشأن اللبناني مما يحصل مؤخراً رغم أهميته، لا سيما في تطويق خلاف يُعمل عليه بين السنة والمسيحيين عبر محاولة تعديل اتفاق الطائف والكلام السمج عن استعادة حقوق المسيحيين وصلاحيات رئيس الجمهورية، وكلها في نهاية المطاف تصب لصالح غلبة المحور الإيراني بغطاء مسيحي مفتعل ومنتفخ.

لا عودة الحريري إلى السلطة ولا اعتذاره، ولا تشكيل الحكومة أو عدمه، ولا إجراء إصلاحات أو التمنع عنها رافعات للحل المنشود مع استمرار السطوة الإيرانية على الدولة والسيادة وصناعة القرار. المطلوب العمل على توجيه البوصلة دولياً وداخلياً، أولاً عبر وضع الإصبع على هذه الحقيقة وهي مهمة أوّل من يُسأل عنها هم الزعماء المسيحيون، وثانياً تأكيد المؤكد أن لا حلول مرتجاة من دون شراكة متوازنة مع المسلمين جميعاً ومع السنة بخاصة الذين أضحوا أصحاب شعار «لبنان أولاً».