IMLebanon

تداعيات اقتصادية واستراتيجية واجتماعية لـ«جبهة الشمال»: إسرائيل وتحدي الهروب الكبير

    

 

منذ أشعلت المقاومة في لبنان الجبهة الشمالية لإسرائيل إسناداً لغزة، في اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، يتكتم العدو على خسائره البشرية والمادية على هذه الجبهة. فيما تحوّل الفرار الجماعي للمستوطنين إلى مادة سجال أساسية في الداخل الإسرائيلي، وعنصر الضغط الأساسي على المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل، وسُخّر لإيجاد حل لهذه المعضلة موفدون دوليون حملوا إلى لبنان رسائل ترهيب وترغيب، لإقناع المقاومة بفصل الجبهات. وهو ما يشير إلى التأثير الكبير لفتح هذه الجبهة على كيان العدو، استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. تداعيات «جبهة الشمال» وما تسببت فيه لا تقتصر على المدى اللحظوي الذي ينتهي بانتهاء الحرب، ولا على الخسائر الاقتصادية على أهميتها. إذ تمكّن النزوح من اختراق الوعي الجمعي لمستوطني الشمال، ولسكان الكيان. بالتالي، فإن تغيّرات استراتيجية على صعيد الديموغرافيا والقوة الاقتصادية والمناعة الوطنية والتركيبة المجتمعية بدأت بالتشكّل، سواء لجهة نظرة الصهيوني إلى قيمته الذاتية والوطنية أو ارتباطه بالأرض، أو حتى في جدوى التصدي والتضحية للدفاع عن «حدود إسرائيل»

الضغط الكبير الذي يولّده عمل المقاومة انطلاقاً من الحدود اللبنانية الجنوبية باتجاه الجليل في شمال فلسطين المحتلة، ليس ناجماً عن اعتبارات عسكرية فحسب، بل لأن الجليل في حدّ ذاته أشبه بدولة متكاملة المزايا تقريباً تُعتبر رافداً اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً كبيراً لإسرائيل.

يلعب الشمال عموماً دوراً مهماً في تحصين «حدود إسرائيل» عبر إنشاء سياج بشري يدخل في المعادلات العسكرية و«الوطنية» وعدم تعريض الحدود لمساحات رخوة وضعيفة استراتيجياً. كما أنه من ضمن الاعتبارات الأساسية لضمان الامتداد الجغرافي لإسرائيل، بالحفاظ على التسلسل الجغرافي لمساحات التوطين، وتثبيت هوية الأراضي. فضلاً عن أن طبيعته الطبوغرافية تضفي عليه أهمية عسكرية استراتيجية، إذ يتضمن مرتفعات وجبالاً عالية تعطي أفضلية في السيطرة الميدانية والتكتيكية، وتسمح بإنشاء قواعد عسكرية ومراكز اتصالات ومراقبة على القمم، كما تقدّم أفضلية في السيطرة الميدانية والاستخباراتية والتكتيكية.

أضف إلى ذلك أن مجاورة الجليل للبنان وسوريا، أعطته أهمية عسكرية عالية، تضاف إلى أهميته في التراث الصهيوني والوعي القومي، من حيث المكانة الدينية ومركزية الدور الذي لعبه في تأسيس إسرائيل، باعتباره موطن قدامى المحاربين والكيبوتسات القديمة ولاحتوائه على مستوطنات تهريب المهاجرين اليهود من سوريا ولبنان. كل ذلك، يجعل خسارة الجليل بمثابة خسارة كل إسرائيل، ويحوّله إلى جبهة دفاعية وهجومية استراتيجية.

بحسب قاعدة بيانات أعدّها «مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير» (يوفيد)، يُعد الشمال خزاناً مائياً وأرض المياه والينابيع والأنهار، ويضم أراضيَ خصبة وتنوعاً طبوغرافياً يسمح بتنوع المحاصيل ووفرتها. ومع استخدام التقنيات المتقدمة وطرق الري المتطورة، تحوّل الشمال إلى مركز زراعي وصناعي، وصار الجليل مصدراً رئيسياً للأمن الغذائي في إسرائيل. فمن مستوطنات الشمال، يأتي 80% من إنتاج الدواجن و40% من محاصيل الحمضيات، و95% من التفاح. وفيها أكثر من 30 مصنعاً تنتج أفخر وأجود أنواع النبيذ للاستهلاك المحلي والتصدير. وتبلغ قيمة الإنتاج السنوي لمزارع النحل في الشمال 1.1 مليار دولار.

وللجليل (خصوصاً الأعلى) أهمية سياحية كبيرة، إذ يقصده سنوياً حوالي 1,5 مليون سائح، ويتميز باجتذابه للسياحة الداخلية كمقصد للبيئة الريفية في الإجازات والمناسبات. وهو يشتمل على 211 موقعاً للسياحة الزراعية (جولات في مصانع النبيذ ومصانع التقطير والجعة ومتاحفها – القطف الذاتي في البساتين)، و557 موقعاً للسياحة الطبيعية (محميات طبيعية – غابات – جداول وأنهار وشلالات – ينابيع معدنية ساخنة – كهوف طبيعية – منتجعات صحية وشعبية – معالجة روحية – الغابات والحدائق الوطنية)، و527 موقعاً للأنشطة السياحية (مسارات تسلق طبيعية – مراكز تزلج – تخييم – أنشطة مائية – مسارات للمشي والدراجات)، و243 موقعاً للسياحة الثقافية (متاحف تاريخية – متاحف تاريخ المستوطنات في الشمال – مهرجانات موسيقية – مهرجانات فنية – مواقع أثرية).

منذ الثامن من تشرين الأول 2023 انقلب كل ذلك رأساً على عقب. أُخليت عشرات المستوطنات وأُغلقت المصانع وسُرِّح العمّال وهُجرت البساتين والسهول. حتى كانون الأول الماضي، وصلت أضرار الأمن الغذائي إلى 60%، في حين كانت محاصيل زراعية بقيمة 20 مليون شيكل لا تزال على الأشجار في الجليل الأعلى (القطاع الأوسط وجزء من القطاع الشرقي)، بسبب نقص الأيدي العاملة الزراعية الذي وصل إلى 80% حتى كانون الأول، وزاد إلى أكثر من 90% في الأشهر الأخيرة. ودُمّر بشكل كامل أكثر من ثماني مزارع دواجن في مستوطنات شلومي وشتولا ومرغليوت ودوفيف وغيرها، ولحق تدمير جزئي بـ 30 مزرعة أخرى، ما أدى إلى نفوق مئات آلاف الطيور. وأُغلق أكثر من 24 مرعى لأسباب أمنية، وتُركت أعداد كبيرة من الأبقار والماشية من دون رعاية أو عمال لحلبها، في حين لم يتمكن الجنود من التعامل معها، أو الوصول إليها.

ولا تقتصر الخسائر الزراعية على المحاصيل فقط، بل تشمل ضرب القدرة على الإنتاج بالجودة والكمية في الموسم المقبل، وقد تمتد الأضرار لسنوات عدة، نتيجة عدم تأهيل التربة وتسميدها، وتجهيز البساتين، وتقليم الأشجار، ورعايتها من الحشرات والأمراض، وكلما طالت مدة الحرب ارتفع حجم الأضرار واتسع تأثيرها الزمني على الزراعة، وفي حال لم يتم تدارك الأزمة الزراعية قد يكون قطاع الحمضيات أمام خسائر تُقدّر بـ 4 مليارات شيكل.

على صعيد الخسائر الصناعية والسياحية، تراجع متوسط إنتاج 85 مصنعاً كبيراً في الشمال والجليل الأعلى إلى نحو 70%. وأقفل مصنع «عدسات حانيتا» أبوابه وقرر الانتقال إلى حيفا أو نهاريا، ما سيؤدي إلى خسارة كيبوتس حانيتا مليون شيكل سنوياً وفقدان سكانه إلى فرص العمل. وتجمّد القطاع السياحي كلياً، فخسر منتجع حرمون موسم التزلج، علماً أنه منتجع التزلج الوحيد في إسرائيل، ويستقبل بين 300 و400 ألف زائر سنوياً، ما تسبب بخسارة عشرات الملايين من الشواكل، وفقدان 400 من الموظفين أعمالهم وتحولهم إلى عاطلين عن العمل. كما تسببت الأضرار البالغة في شلومي في انخفاض النشاط التجاري إلى 75% في تشرين الأول الماضي. وانتقلت شركة «Yamoja» التي تعمل في مجال التكنولوجيا الحيوية من كريات شمونة إلى البرتغال.

وفي ما يتعلق بأضرار المنازل والبنى التحتية، فقد تقدّمت المنارة بأكثر من 7000 طلب أضرار حتى كانون الأول 2023 (130 منزلاً من أصل 155 تضررت، منها 30 دُمّرت تماماً). وتسببت ناقلات الجنود المدرعة بضرر في الطرق وأنابيب المياه والصرف الصحي والغاز، والبساتين. وتعرّض نحو 140 منزلاً لأضرار جزئية، ودُمر حوالي 10 منازل (حتى بداية شباط) في المطلة. سُجّلت أضرار بمليارات الشواكل في المنازل والبنية التحتية والمحال التجارية في أكثر من 20 مستوطنة حتى كانون الأول 2023. فيما تعرّضت المؤسسات التعليمية والمنشآت الترفيهية داخل المستوطنات لأضرار جسيمة. وأصيبت كابلات الكهرباء الرئيسية، ولحقت أضرار جسيمة بخطوط تزويد الكهرباء للجنود، في ظل عدم قدرة العمال على صيانة الأضرار إلا ليلاً أو تحت الضباب. وفيما تقدّمت حانيتا بأكثر من 800 طلب عن حالات ضرر حتى كانون الأول 2023، تضرّر حوالي 520 موقعاً في كريات شمونة حتى كانون الثاني 2024.

يتعدّى تأثير الخسائر الاقتصادية الحدود المادية إلى إضعاف وتفكيك «الرابط المقدس» بالأرض

 

تتعدّى الخسائر الاقتصادية على الجبهة الشمالية في تأثيراتها الحدود المادية، إلى قدرتها على إضعاف وتفكيك الرابط المقدس بالأرض، إذ يُصنف مؤسسو ومزارعو المستوطنات والكيبوتسات الشمالية بشكل خاص؛ كسلالة متفرّدة في المجتمع الصهيوني ساهمت في تحديد «حدود البلاد» وثبّتت جذور الصهيونية، لذا فإن أي ضعف أو أذى قد يصيب العلاقة بين المزارع و«أرضه» هو مسّ بحدود الدولة. كما أن طبيعة المجتمعات التعاونية تفرض ضرراً شاملاً على كلّ مستوطني الكيبوتس في حال تعرض منشأة أو مزرعة للضرر. على أن ما يجعل الأضرار الاقتصادية في الشمال تفوق في خطورتها الأضرار في غلاف غزة، ليس الخسائر المادية فقط رغم ضخامتها، بل طبيعة الأضرار التراكمية في مسار تصاعدي يضرب مباشرة قدرة أصحاب المصالح والمزارع على الصبر والتعويض والتفاؤل… ومجدداً استهداف عنصر الصمود والتمسك بالأرض.

والمعضلة الحالية بالنسبة إلى إسرائيل، هي دخول الاقتصاد في الجنوب دائرة التعافي مقابل توسع الخسائر والتداعيات الاستراتيجية الاقتصادية في الشمال. وبالرجوع إلى الأرقام التي قدّمتها دراسة لمعهد «أهارون» للسياسة الاقتصادية، فإن خسارة الناتج المحلي الإجمالي السنوي بلغ 20 مليار شيكل حتى أواخر عام 2023، وسُجّل انخفاض بنحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للفرد، ونمو سلبي للاقتصاد بنسبة 2%، وعجز بنحو 5%. ومع استمرار السيناريو العسكري الحالي على الجبهة الشمالية، فإن التقدير يشير إلى الزيادة في نفقات الحرب بقيمة 111 مليار شيكل حتى نهاية عام 2024، وعجز بنسبة 6.8%، لتكون نسبة الدين حوالي 71.6% في نهاية 2024.

 

كلفة الإخلاء

أُخليت بأمر رسمي 43 مستوطنة حدودية بشكل كلي (باستثناء كريات شمونة إخلاء شبه كلّي)، و14 مستوطنة أُخليت بغالبيتها رغم عدم صدور أمر رسمي، وتمّ إخلاء 20 مستوطنة جزئياً لم يصدر في حقها أمر رسمي. وشكا المستوطنون من غياب خطة إجلاء منظّمة وواضحة، فضلاً عن غياب موازنة واضحة، ما عكس غياباً شبه كلّي للدولة في الاستجابة السريعة لهم ولمشاكلهم، علماً أنه كلما طالت مدة النزوح، وجد النازحون مكاناً آخر للاستقرار، وأصبحوا أكثر قدرة على الانتقال والتكيف في مجتمع جديد، ما يرفع احتمالية عدم عودتهم إلى الجليل مجدداً. وتعززت هذه الفرضية مع عدم قدرة حكومة الاحتلال وأجهزتها على متابعة وتنسيق إقامات النازحين في الفنادق، ما عرّض كثيرين منهم لمشاكل مالية ونفسية واجتماعية، وللطرد من الفنادق التي خُصّصت لاستقبال نازحي الشمال.

 

غياب مستوطني الشمال عن العمل يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي أكثر من 63 مليون دولار أسبوعياً

 

رغم ذلك، كلّف إخلاء الشمال، حتى شباط المنصرم، 2.25 مليار شيكل (حوالي 613 مليون دولار)، بكلفة توازي 163 ألف دولار يومياً، فيما تم تخصيص نحو 1.7 مليار دولار لمواصلة تمويل إخلاء السكان حتى تموز المقبل. وقدّر «بنك إسرائيل» حتى تشرين الثاني 2023، أن غياب 57600 من مستوطني الشمال عن العمل، يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي حوالي 63.2 مليون دولار أسبوعياً، مع تقدير بأن تكلفة الأضرار الجسيمة في الممتلكات والمنازل قد تتجاوز كلفة الأضرار في الجنوب، مع استمرار حدة النيران.

 

«حراس الحدود» الشماليون

تُعتبر الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود مع لبنان، ضمن المنطقة الشمالية الممتدة من هضبة الجولان والجليل الأعلى شمالاً إلى وادي بيسان و«راموت منشيه» جنوباً، وتبلغ مساحتها 4473 كلم مربعاً (3324 كلم مربعاً من دون الجولان). وهي ثاني أكبر منطقة في دولة الاحتلال، وعاصمتها «نوف هجليل»، وأكبر مدنها الناصرة. وتنقسم إلى ثلاثة أقسام هي الجليل الأعلى (يشمل إصبع الجليل) أو الجليل الغربي ويُطلق عليه «سهل الجليل الساحلي»، الجليل الأسفل، والجولان الذي يُعتبر منطقة فرعية من المنطقة الشمالية، لا تعترف بسيادة إسرائيل عليها إلا الولايات المتحدة. وتضم منطقة الشمال 5 محافظات هي الجولان، يزرعيل، طبريا، عكا وصفد.

 

وبحسب قاعدة بيانات «يوفيد»، تقع 417 مستوطنة داخل منطقة الشمال تشكل 34.6% من كل مستوطنات إسرائيل، 85 منها تمّ تعريفها على أنها مستوطنات حضرية، فيما تُعرّف الـ 332 الباقية على أنها مستوطنات ريفية (120 موشاف، 131 كيبوتس، 3 مستوطنات مؤسسية، 41 مستوطنة جماعية و37 مستوطنة ريفية). وبحسب بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2022، يبلغ عدد سكان الشمال 1.52 مليون نسمة، يُشكّل العرب 53.3% منهم (816800 نسمة)، واليهود 42.4% (647500)، وآخرون نحو 4.2% (63500).

بدأت الموجة الأولى من الاستيطان في المنطقة الشمالية في نهاية القرن التاسع عشر، مع إنشاء مستعمرات بشكل رئيسي في«إصبع الجليل». وينقسم المجتمع الاستيطاني في الجليل في تكوينه الأساسي إلى 3 شرائح:

1- مؤسسو الكيبوتسات الأوائل وقدامى المحاربين (المسرّحون من الجيش الإسرائيلي وجنود البلماخ).

2 – المهاجرون الجدد (اللاجئون الضعفاء) وأغلبهم من دول أفريقية وآسيوية (ككردستان واليمن والمغرب) تم إرسالهم إلى القرى المهجورة والمستوطنات الجديدة في الجليل.

3 – الفلسطينيون (المسلمون والدروز والمسيحيون) الذين بقوا في قراهم.

4 – العائلات التي تبحث عن نوعية حياة متميزة: باعتباره مجتمعاً ريفياً، يقدّس الطبيعة والعمل الزراعي، يساند ويتعاون في ما بينه، مجدّاً وعاملاً، ويتمتع بمساحة متميزة للراحة النفسية والجسدية.

وينظر الإسرائيليون إلى مستوطني الشمال، خصوصاً سكان المناطق الحدودية، على أنهم «الجدار الحيّ» الحامي لـ«حدود إسرائيل»، لاختيارهم العيش في مواطن الخطر بالقرب من التهديدين اللبناني والسوري، وضمان «الحدود الجغرافية للدولة بالثبات على حدودها». ويحظى مستوطنو الشمال (الأقرب إلى الحدود) بقيمة «وطنية» كبيرة في الميراث الصهيوني، باعتبارهم المؤسسين و«المحاربين عن حدود البلاد». ويُنظر إليهم على أنهم أكثر تمسكاً بالأرض، واستعداداً للتضحية، نظراً إلى كونهم ضمن مجتمع ريفي زراعي متعلق بالبيئة الجغرافية والمناخية. فضلاً عن أنهم مجتمع يعطي أولوية لـ«نوعية الحياة»، ويهتم للراحة الفردية والمجتمعية كقيمة أساسية، من خلال توفير بيئة هادئة تضمن للفرد صحة نفسية وجسدية (أول مستوطنة للنباتيين بنيت في الشمال، وكذلك المستوطنات التي تعتمد على المأكولات العضوية والصحية).

 

يوم مُتخَيَّل في فندق!

تتيح الوقائع التي وفّرتها قاعدة بيانات «يوفيد»، تخيّل قضاء يوم في أحد فنادق النزوح، حيث يسود الانقسام المجتمعي بين أولئك الذين وجدوا في الإخلاء خطأً جسيماً، ومن اعتبروا النزوح إنقاذاً لحياتهم وحياة أولادهم. يبدأ «اليوم الفندقي» من الازدحام الخانق في ظل عدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية كالغسيل، بسبب الطوابير الطويلة والجدال بين النازحين، مع ملاحظة ارتفاع نسبة الاعتداءات الجنسية والعنف الأسري (أكثر من 160 حالة)، فضلاً عن أن بيئة الفنادق تخلق شرخاً أسرياً، بفعل الضغط النفسي، وعدم قدرة الآباء على تطبيق النظام القيمي والتربوي السابق، أو فرض السيطرة المطلوبة، وبالتالي ظهرت حالة من التفلّت الأخلاقي خاصة بين المراهقين، وانحلال في الروابط العائلية، في ظل عدم القدرة على التكيّف المجتمعي، بما أن غالبية العائلات ذات طابع زراعي ريفي، على النقيض من البيئة الصاخبة السياحية التي نزحوا إليها، ذات الطابع المدني والحضاري. كل ذلك يجعل الجمعيات واللجان الحكومية عاجزة عن احتواء مشاكل الانسلاخ المجتمعي، والاضطراب الأسري، ومتابعتها في الفنادق، أو أماكن النزوح. ورغم الضرر بالروتين اليومي، وعدم القدرة على تحقيق الانضباط، ما ولّد اضطراباً نفسياً شمل كلّ النازحين، قام الأهالي بتسجيل أطفالهم في أنظمة التعليم في مراكز الإخلاء، وهو ما لن يسمح بعودتهم إلى الشمال قبل الصيف، ما سيضر بقدرة المجالس على فتح المدارس، وأنظمة التعليم، وفي حال عدم عودة العائلات فلن يكون من الممكن خلق أفق لتجديد فرص العمل والخدمات للمستوطنين، وإحياء المستوطنات من جديد، وهذه من الحكايات اليومية المتداولة بين النازحين المنتشرين في قاعات الفنادق وغرفها، إلى أن ينتهي كل جدال ونقاش باتفاق على الشعور بالنفي وأن كرامتهم قد تضررت، ويعود إليهم الشعور القديم بأنهم مجرّد «وقود مدافع تل أبيب وحيفا وبئر السبع وإيلات»، وهذا مصطلح قديم، منذ بدأ توطين الشمال من قبل بن غوريون، بسبب الإحساس بإهمال الدولة لاحتياجات هذه المنطقة وسكانها، وتعرضهم المستمر للضربات والتهديدات الأمنية والخسائر، ما نمّى في وعيهم نظرية «يهود الجليل كبش فداء».