IMLebanon

لم يبق لنا سواهم

دائماً كان الوطن بالنــسبة لجــيلنا، في الأقاصي والأفق البعيد، يلمع كوميضٍ وبريقٍ خاطف ثم تسقط عيوننا في الظلام. لم يُقَّدر لنا أنْ نراه ونلتقي به وجهاً لوجه. كنّا نقف خلف باب الانتظار الطويل، وكان ذلك كافياً بجعلنا هزأة أمام شعوب العالم المتحــضر، ثم لا نجد غير الوهم، لا شيء غير ذلك.

أنا من هؤلاء الذين عاشوا خلف الأبواب الموصدة وخلف الآمال الضائعة، إلى أن جاء شباب فيهم شيء من طبيعة النمل، في الإخلاص والحب والجِد والانتظام والمســؤولية والأمانة، تؤرقهم أحوالنا وتضنيهم مآسينا، يتعــذبون لعذاباتنا ونحن ننام على حصير التشرد بفعل الاحــتلال الإسرائيلي، ويتــألمون لألمنا ونحن نتســكع على أتربة الحرمان بسبب نخبة تستعبدها شهوة السلطة ولأجلها تنسى كل شيء. الكرامة والنخوة والحميّة والضمير والــسيادة والوطن، أي والله الوطن الذي لم يكن في عقيــدتها مباركاً كما نقلت الكتب المقدسة، بل طاولة قمار لمن شاء من اللاعبين والمغامرين وسرَّاق الأمل والحياة.

هؤلاء الشباب كان لهم أحلام أخرى غير أحلامنا البسيطة في تأمين الخبز والماء والكهرباء. في جعبهم التي يحملونها متسع لأدوات الرسم والخيال. وفي فكرهم ثمة ممكنٌ دائماً، يحتاج إلى إقبال ومنطق وصدق ويقين بالأرض التي يعرفون ماهيتها وطعمها ورائحتها أكثر بما لا يقاس من زعم الطبقة السياسية المتكالبة على الجاه والنفوذ والمال.

هؤلاء الشباب يعلمون أنَّ الحياة حقٌ كما الموت تماماً. لا يأبهون لحسابات أدعياء السياسة المخملية. لا يعرفون الخوف إلا على الوطن. ولا يهابون إلا الله. يذهبون إلى الشهادة بعفوية وعشق. سعداء كما لو أنهم يجلسون على كنوز الدنيا. لا يُخلون أماكنــهم لليأس والتشــاؤم، بل يخوضون بين الجبال والوديان صراعاً بطولياً لأنهم يحلمون بالغد الأكثر جمالاً.

لقد نجحت النخبة المستلقية على سرير الضِعة والكسل، على تسميم جزء من إرادة اللبنانيين وثقافتهم وخياراتهم. زرعتْ فيهم مركَّب نقص واستطاعت أن تؤسس لفكرة وهمية في عقولهم مفادها أنْ ليس بالإمكان أفضل مما كان. وعلى اللبنانيين أن يرضخوا للصيحات المرعبة الآتية من الغرب، ولقطاع الرؤوس الآتين من عمق الجاهليات، وأن يتجمدوا أمام آلة الموت لأنّ كل شي سينتهي خلال أيام أو شهور على أبعد تقدير.

أنا لا أعرف ماذا يجب أن يقال لنخبة تمضي أوقاتها في القصور والفنادق؟ لا أعرف ماذا يجب أن يقال عن نخبة مأخوذة بالدعة والتفاهة وتستعلي على اللبنانيين بالألاعيب الخداعة؟

الفرق بين المقاومين وهذه النخبة أنّ المقاومين لا سلطان على أرواحهم سوى الله، في وقت تعيش النخبة واجفة خائفة. ساقطة الهمّة. ونحن لا نعاني من تردياتها وجبنها وتخاذلها فحسب، بل من وقاحتها وهي تستسخف الدماء الطاهرة التي لولاها لكانت رؤوس هذه النخبة المتفلسفة في قدور الطعام تُشوى!

لا شيء يقتل الوطن، ولا شيء يقوده إلى الهاوية سوى هؤلاء الذين يمارسون مهنة اللغو والنفاق الأملس والبلاهة المفرطة ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. هؤلاء الذين صنع لهم اللبنانيون ثرواتهم وجاههم ولوحاتهم الزرقاء وتفاهتهم وتجرأهم على دماء الشهداء. الشهداء الذين بقوا في الظلال خجلاً واستحياءً والذين لم يبقَ لنا سواهم كي لا ينسدَّ شريان الحياة!