IMLebanon

ملاحظات «استراتيجية» القانون الجديد «حجاب» للستين

لا شكّ أنّ ثمّة حقبة جديدة من تاريخ لبنانيّ شعّت عنوانها القانون الجديد للانتخابات بالنسبيّة والدوائر الخمس عشرة. حقبة تدفن مرحلة وصفت بالسيّئة من التاريخ اللبنانيّ، وقد سادتها مجموعة قوانين لم تفرز سوى الهشاشة والهزال والاستتباع في الحيّز السياسيّ، وقد جاءت حصيلة لتوافقات وتسويات أمليت على لبنان، ولم يكن للبنانيين فيها رأي.

تلك الصورة يراها كثيرون بهيّة ومشرقة بعد ليل دامس هيمن على لبنان السياسيّ والأمنيّ، نقلت لبنان من لحظة إلى لحظة، وجعلته جزءاً من مشهد جديد. وعلى الرغم من ذلك، توقّفت أوساط سياسيّة بحذر أمام هذا المعطى الجديد وقد حاولت سبر أغواره بغوص في تفاصيله، لتستنبط منه بعض الملاحظات وقد رأتها دقيقة وهي تتسرّب إلى جوف اللحظة الجديدة، وكأنها تسقط ما كان قديمًا فيما هو جديد، أو تعمّدت الالتباس بعض الشيء بسبب مخاوف وخشية تراود العقول الباحثة واللاهثة لمعرفة ما إذا كان بإمكان الجديد أن يصير حجابًا للقديم.

وقبل إبداء الملاحظات التي تراها الاوساط دقيقة واستراتيجيّة تعني الخصوصيّة اللبنانية المؤلّفة بل المكوّنة من مجموعة الخصوصيّات، فقد استرعى انتباهها ذلك العطب في بنية القانون الناتج من حرمان النساء من أن تكون لهم كوتة خاصّة بهم وهو حقّ في بلد يدّعي اهله بالمساواة الحضاريّة والثقافيّة بين الرجال والنساء، ومن حرمان العسكريين من الانتخاب فيستشهدون على الجبهات بلا أصوات (موت بلا صوت)، وحرمان المغتربين من حقّ الاقتراع وهذا كان مطلباً حيويّاً ومكسباً وطنيّاً ووجوديّاً للبنان. ورأت تلك الأوساط بأنّ تلك الفجوات المتعمّدة من الفئات السياسيّة في بنية القانون الجديد تشي بأنّ القانون لا يملك الحوافز الضروريّة لاستنهاض الهمم في علاقة تلك الشرائح بلبنان الوطن والكيان والتصاقها بجوهره الثابت والمتين.

وبالعودة إلى الملاحظات فإنها تتبيّن عندها على النحو التالي:

1-ربح لبنان قانوناً جديداً جاء نتيجة جهاد حثيث ومضن، فالنسبيّة سمة إذا ما طبقّت بمنطلقاتها فإنها ستقود لبنان في مراحل لاحقة إلى تجسيد المادة 95 من الدستور القائلة بإلغاء الطائفيّة السياسيّة.

2-لقد جاء هذا القانون كحالة تسوويّة اجتمعت عليها معظم الأطراف، وقد بني على مجموعة أرباح وتنازلات على الرغم من خسارة التيار الوطنيّ معركة المناصفة في توجهاته وقد نصّت عليها المادة 24 من الدستور. فالمناصفة لم تكن وسيلة بل هدف ميثاقيّ راق كان بالإمكان اعتماده لحماية النسبيّة بها من تسلّل المحادل بالتباس شديد وكأنّنا بطريقة او بأخرى نستولد قانون الستين بنظامه الأكثريّ في بعض الدوائر بالتجسيد الواضح في مناطق الأطراف.

3-ربح لبنان النسبيّة، لكنّه في الوقت عينه خسر جوهرها لو تمّ اعتماد نظام من اثنين مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وقد أيده حزب الله مثلما أيّده التيار الوطنيّ الحرّ بأسبابه الموجبة، أو مشروع الدائرة الواحدة مع النسبيّة فلا تؤثّر الأكثريات الطائفيّة او المذهبيّة في الاقتحام سيّما ان الأحزاب تتماهى فعليًّا بالطوائف، لتصهرها بقرارها فتبقى ناطقة بها أو باسمها.

4-لا تتماهى النسبيّة على الإطلاق أو في المطلق مع النظام الطوائفيّ باعتماد نظام الدوائر الصغرى، وقد ظنّ المسيحيون بانها على المدى الاستراتيجيّ تؤمّن الحماية لهم، بل تتماهى بحقّ مع ثلاث ركائز منطقيّة وفعليّة، هي:

-أ: الدائرة الواحدة، فتضطر الأحزاب لإنشاء تحالفات وتكتلات وطنيّة وليس طائفيّة. فالتكتلات الوطنيّة قادرة على حماية لبنان من اجترار الحروب واستجرارها في منطقة ملتهبة بها، وقد دلّت التجارب بأن بطلان التفاهمات الوطنيّة الصلبة، وقيام انتخابات بأحزاب وطنيّة مزلزل للكيان، وما الحروب التي مرّ بها لبنان سوى ترجمة لنظام اكثري ملتحف باللباس الطائفيّ والمذهبيّ. فإمّا لبنان يمتصها من محيطه لترسو على أرضه وبين مكوناته أو في صلبها، أو يطلقها لتعمّ المحيط كلّه فتفجره.

-ب: المحافظات، إن نظام المحافظات بدوره أو الدوائر الموسّعة لو طبّق بطريقة منهجية مع النسبيّة لكان بدوره أدّى إلى تبديد معظم الهواجس بسياق وطنيّ حام للجميع ويزاوج بين السياقين الميثاقيّ والوطنيّ ويبلغ إلى النتيجة عينها لو تمّ اعتماد النسبيّة ضمن لبنان دائرة واحدة.

-ج: مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ وفيه نسبية مع لبنان دائرة واحدة، يملك القدرة على تفتيت البنى الطوائفيّة بقوة، من خلال تحويل الصراع من المنطلقات الطائفيّة بين المسيحيين والمسلمين، أو المذهبيّة سنة وشيعة، إلى المنطلقات البنيويّة داخل كلّ طائفة ومذهب، فيذيب هذا التحول اللاهب الكيانات الطائفيّة المتصادمة ويستبدلها برؤى وطنيّة جديدة يفرزها انتخاب المذاهب لممثليها فيلتقي هؤلاء ضمن واحدة وطنيّة بالإرادات التي أفرزتهم، فتشكّل تلك الإرادات بحريتها خطابًا وطنيًّا جديدًا للبنان، لتبدو المناصفة التي طالب بها المسيحيون الطريق الأمثل لإلغاء الطائفية السياسيّة بتحسيد سياسيّ ودستوريّ للمادة 95 من الدستور.

نتيجة لتلك الملاحظات المبدئية تسأل هذه الأوساط: هل دفن قانون الستين إلى غير رجعة؟ برأيها يبدو أنّ بعض الممارسات التي تحركت به وتحرك بها، ستغزو قانون مروان شربل المستند الى النسبية وعلى اساس 15 دائرة  بالتجسيد الواقعيّ. وتنطلق الأوساط من بعض الأمثلة الواقعيّة التي ستترسّخ بفعل الممارسة والتطبيق، فالتحالفات بين الأحزاب والفئات السياسيّة قد تعتمد الأسلوب عينه والمعايير ذاتها، حتّى لو تغيّر المحتوى السياسيّ فيها. ففي دائرة عاليه والشوف لن تجري التحالفات بمنأى عن الوزير وليد جنبلاط كحيثيّة سياسيّة راسخة في هذه الدائرة ومطلّة على الآفاق السياسيّة في لبنان والخارج. والثنائيّ المسيحيّ (أي القوات اللبنانيّة والتيار الوطنيّ الحر) سيرى نفسه مضطرّاً للتفاهم مع جنبلاط. ما تغيّر بطبيعته هو نمط التفاهم في النسبيّة والثقل السياسيّ الذي اظهره التحالف الثنائيّ، لكن ماذا لو لم يبلغ الثنائيّ إلى التفاهم مع جنبلاط سيّما أنّ الأخير يرى نفسه حجر زاوية لهذه الدائرة، ويرى نفسه الضابط القابض على تفاصيل جبل ضمن هذه الدائرة، وقد كان في مراحل سابقة هو من يختار وإن تشاور، لكنّ الخيار الأخير يبقى له، فهل سيبقى الخيار الأخير له، وقد اتضح بأنّ الفريق المسيحيّ غير قادر على إلغائه، ولا هو بالتالي بفعل قوّة ومتانة التحالف المسيحيّ قادر على فرض مرشّح مسيحي في لائحته من دون رضى الثنائيّ، هناك تسوية ستحصل في هذه الدائرة حتماً، وسواءً حصلت او لم تحصل الثوابت السياسيّة الراسخة في قانون الستين، ستبقى راسخة بدورها في هذا القانون بالمحتوى السياسيّ الفاعل والمؤثّر. والصوت التفضيليّ ضمن العتبة الوطنيّة المرسومة له «قد» يظهر استيلادًا للستين في النسبيّة، حينما يرى بعض الطوائف بفعل الصوت التفضيليّ مستولدين من أصوات ناخبين تنتمي إلى طوائف أخرى.

الرؤية عينها ستكون ثابتة في دوائر أخرى تضيف الاوساط، في تقرير مصائر التحالفات لا سيّما في مناطق تكوّنت من أكثريات طائفيّة ومذهبيّة، بمعنى أنّ المكوّن المسيحيّ قد يعاني من استيلاده في كنف المكوّنات الأخرى المسماة أكثريّة ولو على مقياس النسبيّة التي اعتمدت في هذا القانون الجديد. من هنا إن إسقاط عامل المناصفة الفعليّة من هذا القانون الجديد تجسيد لمنطق الأكثريات الطائفيّة والمذهبية وتأكيد لقدرة تمسرحها في تلك الدوائر وكأنها لا تزال في قانون الستين، تمارس دورها بالمنهج الأكثريّ، فيضطرّ المكوّن المسيحيّ أن يسلّم بتلك الأكثريّة ويندرج فيها بحال فقد القدرة على فرض مرشحه بالأطر السياسيّة في اللوائح التي ستكون الطوائف الأخرى مع من يمثّل وجدانها سياسيًّا المؤلّفة للوائح، ففي النسبية ليس من تشطيب بل اللوائح تنتخب كما هي والخيار للناخب، فهل المسيحيّ في هذه المواقع يملك القدرة على التأليف؟

تبقى الإضاءة على الواقع المسيحيّ في النسبيّة بحسب أوساط مسيحيّة معنيّة. فهو واقع مرتبط باحتمالات عديدة، حتماً ستظهر جبهات معارضة في المدى المسيحيّ للثنائيّ المسيحيّ ومعترضة على ما أسمته بالهيمنة على القرار المسيحيّ من قبل الثنائيّ. وتطرح الأوساط سؤالاً واضحًا هل الثنائيّ المسيحيّ سيترشّح بلائحة واحدة في معظم المناطق أو أنهما سجتمعان في دوائر ويفترقان في دوائر أخرى؟ لم يحسم الفريقان خيارهما في المطلق، لا شيء وبحسب هذه الأوساط يوحي بأنّ التحالف سيهتز أو أن العلاقة بين التيار والقوات تترجرج وتمرّ في أزمة صاعقة.

وأخيراً لفتت مصادر أخرى إلى ما يلي:

1-هذه الأطروحة في جذرها انتصر فيها فريقان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، فهما كانا على موجة واحدة مذ صرّح الرئيس عن الاتجاه نحو النسبيّة وخمس عشرة دائرة.

2-لقد ظهرت مقاربات بدورها من القوات اللبنانيّة وبالتحديد مع النائب جورج عدوان تماهت مع رؤية حزب الله أدّت إلى تلك الرؤية لا سيما أن تصريحه الأخير مساء الأحد الفائت أوصل إلى تلك النتيجة.

3-لقد انتصر التيار الوطنيّ الحرّ والقوات اللبنانية معًا في كسر مفهوم التمديد السياسيّ ودفن قانون الستين بشكله وإن ستظهر بعض ممارساته في بعض الدوائر الانتخابية. وقد بدا حزب الله واجهة كبرى من واجهات هذا الانتصار بعد رفضه التمديد وقانون الستين. وهذه علامة من علامات التقارب الجليّة والممكنة بين القوات اللبنانية وحزب الله في المراحل الاتية والمقبلة.

4-ستتموضع القوى الطائفيّة غير المسيحيّة في هذا القانون الجديد لا سيما الشيعية والدرزية مع الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط كحجري زاوية في الجنوب والجبل وستشهد الساحتان المسيحيّة والسنيّة ارتجاجات انتخابيّة داهمة سيّما إذا كانت الساحة السنيّة ستتأثر بطبيعة الاشتباك السياسيّ العنيف في الخليج العربيّ.

في الختام إنتصر لبنان مع دفن قانون الستين وانبثاق قانون جديد. النسبية مدى للاختبار والأنظار مشدودة إلى النتائج عسى تحمل بشرى الخير لوطن عانى من الجراح فتأتي النتائج مضمّدة لها.