IMLebanon

الاتفاق النووي يخصِّب التفاهمَ العربي

الاتفاق الأولي بين واشنطن وطهران يَـــحُــدّ من انتشار السلاح النووي في العالم، لكنه لا يَحدّ من انتشار إيران في الشرق الأوسط. يؤخـرّ امتلاك إيران القنبلة النووية لكنه لا يقضي عليه نهائياً. لذلك، إيران رابحةٌ ولو خسِرت، وأميركا خاسرةٌ ولو ربِحت. وبالتالي، ليس الرئيس أوباما منتصِراً بتوقيع الاتفاق وكأنه الاسكندرُ المقدوني يَـهزِم داريوس الثاني، ملكَ الفرس، في معركة إسوس سنة 333 ق. م. وإذا كان الاتفاق ــ الاطار استغرق اثنتي عشرة سنة ليخرج “قيصرياً” في اللحظة الأخيرة، أتكفي ثلاثة أشهر (30 حزيران المقبل) لإصدار الاتفاق النهائي، أم يُـــكتفى مرحلياً بالاتفاق ــ الإطار بديلاً منه؟

إعلان الاتفاق ــ الإطار الآن أتى ينقذ المفاوضات الأميركية الإيرانية، فلا أوباما يخسر في واشنطن ولا خامنئي في طهران. أما إرجاء الاتفاق النهائي فأسبابه هي التالية: 1) عدم جهوزية تفاصيله. 2) التحفظ الأوروبي على تنازلات جون كيري. 3) امتصاص معارضة الكونغرس الأميركي. 4) استيعاب رفض الحكومة الإسرائيلية. 5) إعطاء النظام الإيراني فرصة زمنية لتسويق مشروع الاتفاق لدى مختلف تيارات السلطة في طهران. 6) احتواء انزعاج دول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية وسنية أخرى ترى في توقيت إعلان الاتفاق طعنة لها فيما هي تشن حملة عسكرية على “الحوثية الإيرانية” في اليمن. 7) استشراف السلوك الإيراني على صعيد ملفات المناطق العربية والآسيوية والإسلامية. 8) انتظار مسارات المعارك الحالية الدائرة في اليمن وسوريا والعراق والمرشحة لمزيد من التأزم العسكري.

في كل الأحوال، هناك تصميم أميركي / إيراني على قيام تفاهم بينهما من دون توقيع تحالف استراتيجي علني. فلا إيران قادرة بعد على تخطي الشرعية الدولية، ولا أميركا قادرة على تجاهل ثقل إيران الإقليمي. وكل معارضي هذا الاتجاه في أميركا وأوروبا والشرق الأوسط سيكتفون بتسجيل مواقف من شأنها أن تؤخر إبرام الاتفاق لا إلغاءه، أو الحصول على ترضيات في ملفات أخرى.

لكن المفارقة هي أن إيران تبتغي أن تتخذ من الشرعية الدولية غطاءً إضافياً لتعزيز نفوذها في المنطقة، فيما تأمل أميركا وأوروبا أن يَــلجمَ انضمامُ إيران إلى الشرعية الدولية توسّــعَـها. هذا الالتباس الــمُضمَر لا يلغي توجهاً أميركياً بالتعاون المتدرج مع إيران في قضايا الشرق الأوسط الكبير. وقد لاح ذلك أثناء حرب أفغانستان وتأكد في العراق وتثـــبَّت في الملف النووي.

وبديهي أن نستنتج أن سياسة أميركا في المنطقة هي نفسها من بوش إلى أوباما. الفوارق هي في الأسلوب والآلية والتوقيت. فمذ قررت الولاياتُ المتحدة إسقاطَ نظام صدام حسين وحلَّ الجيش العراقي (السدّ المنيع أمام التمدد الفارسي)، فتحت الشرق الأوسط أمام إيران وكل أنواع التغييرات. إن إيران استفادت من أخطاء بوش العسكرية، واليوم تستفيد من أخطاء أوباما السياسية. وبات واضحاً أن مشروع واشنطن في المنطقة هو إعادة النظر في كيانات المنطقة على أساس الانتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية خلافاً لأسس اتفاقية سايكس/بيكو التي مزجت بين الخصوصية الحضارية للمجتمعات والشعور القومي للشعوب، فنشأت الدول ـــ الأوطان.

من هنا تبدأ عملية استكشاف تداعيات الاتفاق ــــ الإطار. دول الشرق الأوسط، بما فيها لبنان، التي اعتادت منذ سنوات وجود الطاقة النووية الإيرانية، لا تتأثر مباشرة بالاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، بل بمفاوضاتهما حول الملفات غير النووية (السلام مع إسرائيل، سلاح “حزب الله”، الحروب السورية والعراقية واليمنية والليبية، وضع الأقليات، مصير الكيانات القائمة والمتهاوية، إنتاج النفط واسعاره، إطار العلاقات السعودية الإيرانية ومن خلالها ترسيم الحدود بين الحالات السنية / الشيعية والعربية / الفارسية، إلخ.). غالبية هذه القضايا موجودة قبل المشروع النووي الإيراني وملفاتُــها أخطر من السلاح النووي، فأسلحتها التقليدية قابلة للاستعمال اليومي خلافاً للسلاح النووي الذي هو “احتياطي الوجاهة”.

لذلك، بالنسبة إلى لبنان والشرق الأوسط، تتوقف فائدة هذا الاتفاق النووي على نوعية الحلول لكل هذه الملفات المذكورة، وليس على انخفاض نسبة التخصيب في محطة “فوردو” أو نسبة الانتاج في محطة “ناتانز”. هذه هموم ثنائية بين إيران ومنظمة الحد من انتشار السلاح النووي. ولا تستطيع أميركا أن تدّعي أن هذا الاتفاق يعزز السلم الإقليمي ما لم تساهم في تخصيب عروبةٍ جديدة تَــصبّ في مصلحة شعوب المنطقة وتقدّمِها وسيادتها وحريتها في تقرير المصير. هذه هي معاييرُ الترحيبِ بالاتفاق أو معارضته.

في مفاوضاتها، حرصت إيران ودول الـــ5 زائد 1 على الفصل بين الملف النووي و”الملفات الجغرافية” لكي لا يحصل “ربطُ تنازلات” تستغله إيران لتنال مكاسب على صعيد ملفها النووي، ولأن بحثَ “الملفات الجغرافية” يستلزم مشاركةَ الأطراف المعنية بها مباشرة. لكن هذه الأطراف غيرُ جاهزة للجلوس إلى الطاولة مع إيران قبل تحقيق مكاسب على الأرض توازن الاعتراف الدولي بالطاقة النووية الإيرانية: السعودية تطلب وقف خرق الشيعية الفارسية للعالم السني العربي، مصر تُــصِرّ على استعادة دورها ما قبل أحداث 2011 وضبط الوضع الليبي، تركيا تريد دوراً للإخوان المسلمين في النظام الإقليمي الجديد، وإسرائيل تفرض اعترافاً بها.

تحسينُ شروط هذه الدول يتمّ مبدئياً على حساب الدور الإيراني. غير أن إيران تنتمي إلى مدرسة “خذ وطالب”، وليست في وارد التخلي عن مواقعها في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن إلا بالقوة أو بتقاسم النفوذ. وأساساً لم تسع إيران إلى امتلاك الطاقة النووية إلا لتعزز دورها في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً. ونحن نعيش اليوم اختبار تقاسم القوة بموازاة تقاسم النفوذ.

الخوف الكبير هو أن يمر الاختباران من خلال تقسيم الكيانات القائمة لأن الصراع ليس على عدد الوزراء والنواب بل على ولاء المكـــوّنات المجتمعية في الكيانات القائمة لإيران أو لخصومها. والشغور الرئاسي في لبنان هو دليل واقعي على النزعة المطلقة للصراع في المنطقة. والتسويات المرحلية في لبنان (حكومة سلام) وفي العراق (حكومة عبادي) ليست سوى هدنة علّ ظروفاً سلمية أو عسكرية تسمح لاحقاً بالسيطرة المطلقة لأحد أطراف الصراع.

من خلال الصراع العربي / الفارسي، أطلق المشروع الأميركي الحريات الغريزية في الشرق الأوسط لتعــبّر عن مداها الحضاري واللاحضاري، وعن حدودها الجغرافية والتاريخية غير عابئة بالحدود الدولية لدول الشرق الأوسط. غابت الدول وبرزت المكـــوّنات. انتقلت المجتمعات العربية من الثورات إلى الحروب، ومن السياسة إلى العنف، ومن العنف العسكري إلى العنف الإرهابي، ومن الارهاب الفوضوي إلى الارهاب المنظَّم والمدلَّل. بات الحديث عن مصير المسيحيين والشيعة والسنة والعلويين والدروز والأكراد والحوثيين والأزديين واليهود عوض الحديث عن مصير لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين وإسرائيل.

مجمل هذه المعطيات يفسر العملية العسكرية السعودية في اليمن، التلاقي المصري الخليجي الباكستاني، وإنشاء القوة العربية المشتركة. لا تأتي هذه التطورات الثلاثة لمواجهة الاتفاق بين إيران وأميركا على الملف النووي فقط، بل لمنع أن تكون تسويات الملفات الجغرافية تتمةً للاتفاق النووي.