كل يوم، ينام اللبنانيون ويستيقظون على خطاب القسم، يعيدون قراءته من جديد، يسمعون تسجيله المباشر، بالصوت والصورة، وينظرون إلى قاعة المجلس النيابي، وإلى حفل تصعيد الرئيس جوزاف عون، يتأكدون أنفسهم بأنفسهم، من وجوه السادة النواب، يركّزون عليها، يريدون أن يكتشفوا في كل منهم، مدى الصدقية، مدى المصداقية، مدى إحترام الميثاقية، وكذلك مدى إحترام الذات وإحترام الشعب الذي يمثلون، بعد نصف عام. كل يوم يريدون أن يتأكدوا: إن الرئيس أدّى خطاب القسم على مسامعهم وليس في غيابهم. وأنه هو شخصيا، الذي كان يخطب، ولم يكن شريطا تسجيليا. يعيدون إحصاء عدد النواب الذين حضروا، وعدد الأصوات التي قالت نعم. يتأكدون أن الحزب كان في طليعة من وافق على خطاب القسم. وأن جميع الكتل النيابية الأخرى، كانت تصفق لهم. تبتهج لهذا التحوّل الكبير الذي إنتظروه منذ زمان…
نهض أعضاء الكتل وقوفا، شاركوا في التصفيق للتصفيق. ما كانوا يصدّقون ما تراه أعينهم، ولا كذلك اللبنانيون المتحلقون أمام الشاشات الصغيرة، في بيروت، وفي لبنان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
راحت السكرة وأتت الفكرة، وأخذت الأيام تطوي نفسها، يوما بعد يوم، ولم يلمس اللبنانيون أية نتائج جديّة وجديدة على الأرض. خافوا أن يكون كل الذي يجري تقطيعا للوقت. فلا زال السلاح يرهب اللبنانيين، حتى في الانتخابات، تراه يكتسح القرى والبلدات، ويحقق فوزا مائة بالمائة في كثير من البلدات، يجتاح المحافظات، باعتبارها بيئة السلاح، دون مواربة ولا نكران.
فكل يوم نسمع عن سلاح الأعراس، عن سلاح الانتخابات، عن سلاح إعلان النتائج والإبتهاج. كل يوم نسمع عن صواريخ المقابر، وعن صواريخ الخرائب، وعن صواريخ القرى وعن صواريخ الأنفاق. كل يوم نسمع عن المسيّرات التي تقتل الناس على الطرقات، ويطلق العدو البيانات العدوانية، بروح من الحقد والشراسة والإصرار على إنتهاك السيادة الوطنية، في جنوب الليطاني، وفي شمال الليطاني، بل في أي مكان من لبنان، ولو في أعالي أيطو، وأقاصي البقاع، وجرود الهرمل وجبال الأربعين في قضاء المنية – الضنية، وفي جبال وكهوف عرسال.
اللبنانيون بدأوا يخشون أنه كانت هناك صفقات لا صفقة واحدة لتمرير الانتخابات الرئاسية، ولتمرير تصعيد الحكومة الجديدة، ولتوزير الكتل الحزبية مباشرة أو مواربة، وأن كل ذلك التصفيق من كل الجهات، إنما كان لتوزيع الحصص عليها، فمضوا في تأييد العهد والحكومة، لأهداف مبيّتة، لا لأهداف وطنية كما كانت صريحة ومعلنة في خطاب القسم، وفي بيان التأليف والتكليف للحكومة.
الأيام السوداء لا تزال تتوالى على لبنان، فالسلاح لا زال هو السلاح في مخابئه السرية، بلا كشف حساب، وبلا أوراق ودفاتر وسجلات وتسجيلات. وبات اللبنانيون يعرفون مسبقا، أن القوى الداخلية والإقليمية تنظر نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية على النووي الإيراني- الإسرائيلي. فما شأن لبنان؟ فلا بأس أن ينتظر ولو كثيرا، حتى تنتهي آخر الجولات، وتعلن النتائج على الملأى، ولو إحتفظوا بقسم كبير منها بصورة سرية، لأجل الإنتفاضات القادمة.
اللبنانيون ينتظرون المصداقية من العهد والحكومة لا أكثر ولا أقل. وهم يعرفون مسبقا أن السلاح ليس إلى جانبهم بل عليهم. والأدلة على ذلك يومية ولا تحتاج إلى برهان. أما «همروجة» الإصلاحات، فدعوا الوزراء الجدد يتحدثون عنها: «فهل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهّم».
اللبنانيون ينفخون على اللبن لأن الحليب كاويهم: فما هكذا تكون الإصلاحات، ولا هكذا تتم معالجة السلاح. وسوف يمضي العهد، كما العهود السابقة، وسوف تمضي الحكومة، كما الحكومات السابقة، و(قد ينبت المرعى على دمن الثرى/ وتبقى حزازات النفوس كما هي).
فمبروك سلفا فخامتك، مبروك عطوفتك، مبروك دولتك، مبروك معاليك.. وغدا أو بعد غد، مبروك سعادتك.
ومن يعش يرَ.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية