IMLebanon

من سايكس ــ بيكو الى ميشال سليمان

نادرة هي الصور الفوتوغرافية التي ترقى الى مصافّ الوثائق التاريخية التي تثبّت اللحظات الحاسمة في حياة الأمم. لم تصلنا، مثلاً، رسومات تشخّص الاسكندر المقدوني وهو يخطّط لمدّ حدود امبراطوريته من سواحل البحر الأيوني غرباً إلى سلسلة جبال الهيملايا شرقاً. وحتى في عصر ما بعد اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، لم يشر أي مصدر تاريخي الى وجود صورة تجمع، مثلاً، السيدين مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو وهما يقتسمان ــــ على خريطة موضوعة أمامهما ــــ تركة الامبراطورية العثمانية. إذ لم تكن مؤسسة «دالاتي ونهرا» ــــ لسوء حظنا، ولحسن حظ بريطانيا وفرنسا ــــ قد وُجدت بعد.

ولكن، الحقّ الحقّ، أن الصورة التي بين أيدينا مرشّحة لأن تكون الأولى، ربما في التاريخ، القادرة على كشف الكثير من التفاصيل والبوح بكثير من الأسرار التي ستؤثر في حياة ملايين البشر لقرون مقبلة، بما تعجز عنه أي وثيقة مكتوبة!

هي صورة تتكثّف فيها الدلالات الرمزية بدءاً من مكان التصوير الذي يوحي وكأنه «غرفة عمليات» في طبقة ما تحت الأرض، في مكان ما من الجمهورية اللبنانية. تشير الى ذلك، بوضوح، البرودة الطاغية على الجو، من الارضية المكشوفة الى الكراسي المعدنية. وهي برودة جرت محاولة لكسرها ببعض اللوحات الملوّنة التي عُلّقت على الجدران. البرودة نفسها تشي بها، أيضاً، الطاولة الزجاجية التي يبدو وجودها نافراً في مراكز صنع القرار، لولا أن مبدع «إعلان بعبدا» التاريخي يعاني حساسية شديدة من الخشب، على اختلاف أنواعه ومعادلاته.

وفي الدلالات، أيضاً، زاوية التقاط الصورة. صور كهذه يفترض أنها لا تنشر عادة من دون المرور على الرقابة، كما يفترض أنها تتضمّن رسائل وايحاءات يحرص القادة عادة على توجيهها. لم يشأ المصوّر ان يقف في الجهة المقابلة حتى لا تبدو صورة «القائد الملهم» تقليدية، كتلك التي تعلّق في الادارات الرسمية أو توضع على جوازات السفر (وهذه الأخيرة يحبها «القائد» حبّاً جماً، خصوصاً إذا ما كانت فرنسية!).

يغيب الخشب تماماً

عن مقر اللقاء لحساسية شديدة لدى «القائد»

حرص المصوّر على أن تبرز اللقطة نصف الوجه، بقسمات لم نعهدها في نظراته الحانية سابقاً، وكأن بالرجل يقول لنا، نحن الناظرين اليه من هذه الزاوية، إن هذا هو وجهي الآخر الذي سترونه من الآن فصاعداً… فالمرحلة مصيرية والخطب جلل!

حركة الفكّ، هي الأخرى، تشير الى صرامة التوجيهات التي يعطيها الى قيادة أركانه المتحلقين حوله. اليد اليمنى تطبق على الهاتف الذي يستقبل آخر تقارير الميدان، واليسرى تحتكر كل الأقلام من دون أن تترك قلماً واحداً لأي من أولئك الذين يشاركونه جلسته.

تخلّد الصورة، بين ما تخلّده، ابتسامة غير مفهومة ارتسمت على محيّا السيدة، الوزيرة «في بلاد العجائب»، الجالسة الى يمين الصورة. لن تكون حيرة الأجيال المقبلة أقل من حيرة العالم اليوم في مغزى ابتسامة «الموناليزا» اللبنانية. تجلس السيدة وقد كتفت يديها، وهي حركة يقول خبراء لغة الجسد إنها تمنع الأفكار من التوارد إلى الدماغ، فيما يبدو الضجر واضحاً على الجليسين الآخرين: عينا السيد الجالس في الوسط توحي بملل شديد وهو يتلاعب بنظارتيه، فيما شبك السيد، الى اليسار، يديه فوق الطاولة موحياً بالاهتمام، هو الذي تنظر عيناه في الفراغ أمامه.

الذروة الدرامية في الصورة تتبدّى في رقعة الشطرنج التي تتوسّط الجالسين بأحجارها الفينيقية. تكاد توحي، بوضعيتها هذه، أنه ها هنا تُحرّك جيوش، ويُطاح بملوك، وتُقرّر مصائر شعوب، وتُرسم حدود أوطان، ويُرسم مستقبل أمم. ها هنا يُتخذ القرار التاريخي بتأسيس «منتدى الجمهورية» برئاسة ميشال سليمان!