لا استبعاد لأزمة كالتي حصلت في 1973
لم يكن تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسلاح النووي موفقاً لا بل «عبثياً» بكل معاني الكلمة. لكنه لو هدد بالسلاح النفطي والغازي لحصل على «نتائج أفضل» وفقاً لتعبير تهكمي، مشبع بالمخاوف، أجمع عليه معظم محللي أسواق الطاقة الأسبوع الماضي. فروسيا أول منتج ومصدر للغاز وثاني مصدر للنفط في العالم. في المقابل، فان استخدام هذا السلاح يعتبر أيضاً سيفاً ذا حدين قاطعين. فرئيس روسيا اليوم، أكثر من يوم مضى، بحاجة للايرادات النفطية والغازية ليمول بها الحرب «الانتحارية» التي شنها على أوكرانيا، ومع ذلك يسود اعتقاد في الأسواق بأن بوتين قد يلجأ الى السيناريو الأسوأ، ويستخدم سلاح الطاقة لإشعال الأسعار على نحو جنوني يربك الدول الغربية الى أقصى حد ممكن ليحصل منها على «النتيجة» التي يريدها من هذه الحرب.
توقعات بارتفاع البرميل الى 200 دولار.. نحو أزمة عالمية
على وقع طبول هذه الحرب، تجاوز سعر برميل النفط (برنت) 118 دولاراً الجمعة الماضي بارتفاع نسبته 25.5% في أسبوع، ووصل السعر الى المستوى القياسي التاريخي الذي كان بلغه في 2014. اما الخام الاميركي فبلغ أكثر من 115 دولاراً للبرميل بارتفاع نسبته 26% في اسبوع ليبلغ اعلى مستوى منذ 2008.
ومنذ كانون الأول الماضي صعد برميل برنت بنسبة 81% من 65 إلى 118 دولاراً، فيما الاقتصاد العالمي يتعافى من تداعيات جائحة كورونا ما دفع بالأسعار الى أعلى قبل الحرب بأشهر، بفعل الطلب المتزايد مقابل العرض المحدد. مع المستجدات، توقع بنك «جي مورغان تشيس» ارتفاع السعر الى 185 دولاراً للبرميل في حال استمرار اضطراب المعروض الروسي من الخام. محللون آخرون يتوقعون أسعاراً أعلى اذا تطورت الأحداث نحو عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، او اذا دمرت أنابيب استراتيجية وقطعت امدادات حيوية. وتوقع صندوق «ويسبك كابيتال مانجمنت»، المركزة استثماراته في السلع الأساسية، ارتفاع السعر الى 200 دولار في حال فرضت عقوبات على صادرات النفط الروسية. لذا، لم يعد نادراً سماح تحذيرات في دول غربية من أزمة نفطية مماثلة لأزمة 1973 عندما قام أعضاء منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول باعلان حظر نفطي لاجبار اسرائيل على الانسحاب من اراض عربية محتلة.
تجنب فرض عقوبات نفطية على روسيا.. والعين على الضخ الإيراني
يتجنب الغربيون الحديث عن عقوبات على روسيا في هذا القطاع الاستراتيجي، لأن العالم لا يستطيع بسهولة أو بسرعة تجاوز الامدادات النفطية والغازية الروسية، علماً بأن القارة الاوروبية هي الاكثر اعتماداً على تلك الامدادات. وفي حال انقطاع التوريدات يدخل العالم اقتصاد الحرب من أوسع أبوابه، ولا حدود لأسعار البترول ومشتقاته ما سيطلق حتماً موجات تضخمية خانقة لكثير من البلدان. فحتى لو توصلت الولايات المتحدة وايران الى اتفاق نووي جديد، فان فإيران لن تستطيع ضخ أكثر من 1,5 مليون برميل اضافياً في المدى المنظور في الاسواق الدولية، ما لا يشكل اكثر من 2% من الطلب العالمي ويبقى بعيداً من احداث الفرق المطلوب. إذ يبلغ الانتاج الروسي 11 مليون برميل يومياً 60% منه للتصدير تقريباً.
أوبك والدول المنتجة ترى أين مصلحتها: لا تريد زيادة الانتاج بقوة
أما تحالف «أوبك بلس»، الذي يضم روسيا، فاعتبر الاسبوع الماضي ان العرض يوازي الطلب، ولا داعي لزيادة الانتاج فوق المتفق عليه مسبقاً. ولزيادة المشهد تعقيداً، فان عدداً من المشاكل التقنية والجيوسياسية تحول حالياً دون استطاعة عدة دول نفطية في ذلك التحالف وخارجه من زيادة امداداتها.
وتقاوم دول خليجية ضغوطاً غربية عليها لزيادة الانتاج، وهي تفضل مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في هذه المرحلة الدقيقة، ولا تريد خفض الأسعار كي لا تعود الى المعاناة التي تكبدتها كثيرا منذ 2014 بعدما تدنت الاسعار وخلفت وراءها عجوزات هائلة في الميزانيات. كما أن أي لجم للأسعار يفترض، برأي دول منتجة، التعاون مع روسيا لا محاصرتها كي لا تنشأ حرب اسعار ليست في مصلحة الدول المنتجة.
للعقوبات المالية تأثيرات جانبية على اسواق الطاقة وتجارتها لا محالة
إلى ذلك، ستخلق العقوبات المالية الغربية المفروضة على روسيا اضطراباً رغم أنها استثنت البنوك المعنية بالصادرات النفطية حتى الان. بيد ان اخراج مؤسسات مالية روسية من نظام «سويفت» المالي العالمي، الى جانب الاجراءات العقابية الاخرى، ستخلق فوضى ما ذات تأثير لا محالة.
وبما ان كثيراً من تجارة النفط يحصل باعتمادات مسبقة، فالخوف من ان تبدأ البنوك العالمية بأخذ الحذر وتقنين الاعتمادات او تأجيلها أو إلغائها في موازاة تطور الاحداث الحربية.
وظهرت دبي مكاناً لتجارة النفط الروسي بعدما اعلنت شركات نفطية سويسرية وسيطة تعليق انشطتها خوفاً من التأثيرات غير المباشرة للعقوبات المالية. ففي الظروف الطبيعية، 75% من النفط الروسي يتم تداول عقود تجارته في جنيف، في وقت توقعت فيه بلومبيرغ ان 30 الى 70% من انشطة تجارة النفط الروسي تأثرت بالاحداث. فنفط الأورال الروسي يعرض الآن بسعر أقل بواقع 22 دولاراً عن المستوى العالمي. وفي صور الأقمار الصناعية لا رصد كبيراً لسفن فارغة متجهة الى روسيا. فالمسألة متعلقة بقدرة الوصول الى الدولار بفعل العقوبات المالية. لذا توقفت مصارف سويسرية وأوروبية عن فتح اعتمادات للتجارة مع روسيا، وشركات التأمين أيضا توقفت عن اصدار وثائق للشحن. إنها حالة خوف كما لو ان العقوبات تطال النفط الروسي وهي لا تطاله بعد، رغم ان العقوبات الاميركية تشمل المعدات الخاصة بالتكرير والانابيب.
محاولات غربية للحؤول دون تفاقم الأزمة.. جهود مضنية بنتائج متواضعة
استباقا للأسوأ اتخذت دول كثير لا سيما الغربية منها خطوات لتحرير مئات ملايين البراميل من الاحتياطات الاستراتيجية بهدف خفض الاسعار، الا ان ذلك ذهب سدى، ولم يهدئ من روع الاسواق.
واذا توقف الانتاج الروسي او توقفت صادراته، فان دولاً نفطية قليلة باستطاعتها زيادة الانتاج والامداد في المدى القصير، وهذا يشمل الولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية. علما بان المملكة، وهي المنتج العالمي الاول، باستطاعتها ضخ مليوني برميل اضافيين يومياً لكنها حتى الان لا ترى ضرورة، وتعتقد ان العرض والطلب يلتقيان نسبياً من دون خلل كبير في التوازن.
وفي الولايات المتحدة، ومنذ اكثر من عام، ارتفع عدد الآبار المستغلة تدريجياً بنسبة 60% الى 650 بئراً في موازاة ارتفاع الاسعار الذي كان بدأ منذ العام الماضي. وهناك هامش انتاج أميركي اضافي اذا تطورت الاحداث الحربية الروسية الاوكرانية. اما السعودية فبقيت بلا زيادة، وهذا ما يفسر ان الولايات المتحدة قفزت الى المرتبة الاولى عالمياً بانتاج 12 مليون برميل يوميا.
وجاءت الاحداث لتعارض توجهات البيت الابيض الذي كان بدأ بالتضييق على الشركات النفطية تحت عنوان محاربة الاحتباس الحراري، ليجد نفسه في الاشهر القليلة الماضية مشجعاً لضرورة زيادة الانتاج بقوة لخفض الاسعار التي بدأت تضغط على جيوب الأميركيين بقوة.
واعلنت ألمانيا التي تستورد 55% من حاجتها للغاز من روسيا عودتها الى تشغيل مفاعلات نووية لتوليد الطاقة كان يفترض اغلاقها هذه السنة. اجراءات مماثلة اعلنتها فنلندا وكوريا الجنوبية، وترغب الفلبين ببناء مفاعل نووي لانتاج الطاقة.
انسحابات من الاستثمارات النفطية الروسية تزيد المشهد تعقيداً
وتتأثر الأسعار أيضاَ بسحب المزيد من الشركات الغربية استثماراتها من أصول نفطية روسية. فقد أعلنت «اكسون موبيل» التخارج من ملكية 30% من حقل في الشرق الاقصى لروسيا، كذلك فعلت الشركة الهولندية البريطانية «رويال داتش شل» باعلان انسحابها من مشروعات مشتركة مع شركة «غازبروم» الروسية وشركاتها التابعة. وكانت شركة «بي بي» البريطانية الاولى في اعلان تخارجها واعلان بيع حصتها البالغة 20% في شركة «روسنفت» رغم امكان تكبدها نحو 25 مليار دولار بنداً جزائياً، وكذلك فعلت شركة «أكينور» النرويجية التي خرجت من استثمارات نفطية ومن شراكة مع «روسنفت» ايضاً. على مستوى الدول، أوقفت المانيا المصادقة على بناء خط انابيب «نرودستريم 2» لنقل الغاز الروسي. وتكبدت تلك الشركات المنسحبة خسائر كبيرة بعشرات مليارات الدولارت، لكنها ملتزمة بقرارات بلدانها او رضخت لضغوطها. وقد ترى الشركات الصينية فرصة لها للحلول محل الشركات المنسحبة إلا أن ذلك ليس كافياً، فهناك تقنيات غربية متقدمة على غيرها تعتمد عليها روسيا في انتاجها. لذا تعمد موسكو الى الحد من خروج تلك الاستثمارات بقرارات تمنع حصولها وخروج استثمارات أجنبية في قطاعات أخرى. وتسببت تلك الانسحابات بهبوط اسهم الشركات النفطية الروسية المدرجة في الاسواق الغربية الى ادنى مستويات تاريخية. وفي النتائج، فان تراجع الاستثمار في زيادة الانتاج الروسي أو الحفاظ على مستواه سيزيد الأسعار أكثر.
إدمان أوروبي على الغاز الروسي.. ولا خلاص منه قبل 2030
أما أسعار الغاز فقد ارتفعت هي الأخرى بمعدلات قياسية تاريخية مسجلة صعوداً بنسبة 145% في 10 أيام في أوروبا. يعد الاتحاد الاوروبي أكبر مستورد في العالم والحصة الأكبر من روسيا وتزيد على 40%. وتأتي ألمانيا في المرتبة الأولى أوروبياً من حيث الاعتماد على الغاز الروسي تليها ايطاليا.
ويذكر أن روسيا أمنت في 2021 نحو 45% من احتياجات الاتحاد الاوروبي من الغاز. وتقترح الوكالة الدولية للطاقة اجراءات للحد من هذا الادمان، تطبيقها يوفر ثلث تلك الواردات فقط في خلال سنة. الاجراء الاول هو عدم تجديد العقود طويلة الأجل وزيادتها من اذربيجان والولايات المتحدة والجزائر وقطر بشرط الاستثمار في محطات تغويز كلفتها 30 مليار دولار على الأقل، وزيادة الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة المتجددة وعلى الفحم والنفط لانتاج الكهرباء. رغم كل ذلك لا يمكن الاستغناء كلياً عن الغاز الروسي قبل 2030.
موجات تضخم في الأفق.. الصناعات تتأثر والنمو العالمي يتراجع
ويشهد العالم حالياً بداية موجة تضخم استثنائية لا ترغب الدول الغربية في مفاقمتها بحظر النفط الروسي. فارتفاع النفط يرفع معه أسعار الشحن والنقل ومئات السلع والمنتجات. ويضاف ذلك الى غلاء كبير في اسعار مواد أولية مصدرها روسيا وأوكرانيا مثل القمح والذرة والألمنيوم والبلاديوم والنيكل والأسمدة..
ومع ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير اعلنت شركات صناعية بحاجة الى طاقة مكثفة وقف انتاجها موقتاً. وبدأت مراجعة توقعات نمو الاقتصاد العالمي ناحية الخفض. فمع كل ارتفاع بنسبة 10% باسعار النفط ينخفض النمو العالمي 0.5%. واذا بقيت الاسعار فوق 110 دولارات للبرميل فان نمو الاقتصاد العالمي سينخفض الى 1% فقط. واذا زاد على 150 دولاراً فسيقع العالم في ركود تضخمي لا محالة مع ما لذلك من تداعيات جيوسياسية خطيرة.