IMLebanon

مائة عام على “روسي ليكس

في كل بيت كان أهْلُهُ أو بعضُ أهْلِهِ يعرفون القراءة والكتابة قبل مائة عام في منطقة المشرق، وأعني بهم سكان تلك الجغرافيا الممتدة من حلب إلى البصرة ومن الموصل إلى غزة، قصة كراهية وحب للاتفاق السري الذي سيُعرف لاحقا، بفضل الـ”روسي ليكس” البلشفي باتفاق سايكس بيكو.

رغم عصر “الويكيليكس” سيبقى كشفُ الحكومة البلشفية في موسكو لهذا الاتفاق الذي كانت روسيا، قبل انسحابها منه، أهم شريكة استراتيجية ثالثة فيه لاقتسام الولايات العثمانية… سيبقى أهمَّ “ليك” أو تسريبٍ في تاريخ المنطقة ولربما في التاريخ الديبلوماسي العالمي.

كان معظم المنطقة أُمِّيّاً سوى بعض نخبة المدن بصورة خاصة، والأرياف نسبيا. النخب، كما ترجِّح كل الانطباعات عن تلك الحقبة القريبة، كانت منقسمة وبعضها الصاعد والطامح كان في بيروت ودمشق وبغداد وحلب قد بدأ ينسج علاقاتٍ مع فرنسا وبريطانيا سرا أو علنا في السنوات العشر السابقة لانهيار الامبراطورية العثمانية.

هذا أول انقسام عريض: متعلمون قلة وأمِّيّون كثرة بين أهل المنطقة.

الانقسام العام الآخر الذي يمكن رؤيته بعد مائة عام وسبق أن سجّلَتْه دراساتٌ عديدة مشرقية وغربية هو الانقسام بين طوائف مسلمة أو آتية من الثقافة الإسلامية خائفة أو معارضة لتفكّك الامبراطورية العثمانية حتى لو تنوعت عقائديا وبين طوائف مسيحية ويهودية مرحِّبة لقدوم فرنسا وبريطانيا المباشر.

بعضها، كنخب الأكثرية المسلمة، سينتقل بعد السقوط النهائي للدولة العثمانية إلى خط الدفاع الجديد الكبير: القومية العربية في ما سيصبح إسمه سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن كوطنيات ناشئة.

وبعضها، كالموارنة والمسيحيين، لم يكن يعلم أنه سيغادر عصرا ذهبيا سياسيا هو متصرفية جبل لبنان بحدوده من زغرتا إلى جزين، سيغادر إلى مشروع تأسيس دولة جديدة هي لبنان الكبير وسيكتشف تدريجيا أنها لا تشكِّل له الحماية التي اعتقد أنها ستشكلها.

وبعضها، كاليهود، لم يكن يعلم أي مستقبل مثير سينتقل إليه: مشروع تأسيس دولة إسرائيل الذي سيعني لاحقا استحالة بقائهم داخل المجتمعات العربية، المجتمعات التي عاشوا في مدنها الكبيرة باستثناء الجزيرة العربية. فخسرت هذه المدن العريقة كليا “حيَّها اليهودي” الذي لا يمكن لنوستالجي سياسي وثقافي عربي ومسلم إلا أن يراه الآن حيا رائعا في مدينة ضائعة. هكذا يتصرف مثقفو اللحظة في القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت مع هذه الخسارة الدهرية الفادحة الآن.

كل بيت وجماعة في هذه المنطقة حدّد “سايكس بيكو”، ولو معدّلاً بعد 1920، جنسيّتَه وجنسيّتها وجواز سفرها. كان يمكن لتكريت (وبالتالي صدام حسين!) أن تكون سورية الجنسية، ولجبل عامل أن يكون شرقَ أردنيٍ لو قَبِل ونستون تشرشل وفريقه من كبار ضباط وعلماء (اجتماع وانتروبولوجيا وآثار) كلورنس وغرترود بل بمد شرق الأردن الهاشمي إلى الجولان وجبل عامل الشيعي وفقا لأحد مقترحات تلك المرحلة!

كذلك كان يمكن لطرطوس وربما اللاذقية أن تكونا لبنانيّتين (وبالتالي حافظ الأسد) لو قبلتْ فرنسا بذلك وجعلت الساحل السوري مقتصرا على شواطئ لواء اسكندرون، مرفأِ حلب التاريخي مثلما هي طرابلس مرفأ حمص وبيروت مرفأ دمشق… وكلها معادلات كامنة ومقطّعة أثبتَتْها الحرب السورية في السنوات الخمس الأخيرة أو جددت معناها ولو بتسميات مختلفة.

“جدودنا” المؤثرون وربما الحقيقيون اليوم هم لورنس وغرترود بل وكليمنصو وتشرشل وغلوب وكوكس وعشرات الجواسيس والضباط ورجال الدولة الغربيون الذين صنعوا جنسياتنا وليس أبا نواس أو المتنبي أو المعتصم أو طارق بن زياد أو صلاح الدين في دول نظر إليها كثيرون من أبناء المنطقة على أنها مصطنعة ثم أحبوها بل احترموها لأنها، كما ظهر لهم لاحقا، أنها كانت حصيلة مزيج من علوم الاستشراق العميقة والمطامح الاستعمارية!

لكنْ سيبقى السؤال في السنوات الخمس الأخيرة من هذه المئوية، السؤال الصعب، هل أحفاد هؤلاء السياسيين والضباط والجواسيس في واشنطن وباريس ولندن هم الذين اتخذوا قرار “إنهاء” أو تعليق حدود سايكس بيكو المعدّلة عندما قرّروا عسكرة الثورة الشبابية السورية أواخر عام 2011 أي هم الذين ألغوا حدود سايكس بيكو وليس كما يعتقد فقهاء ووحوش “داعش” في الرقة والموصل أنهم هم الذين ألغوها؟

في كل بيت في هذه المنطقة قصة حب ثم كراهية أو كراهية ثم حب لسايكس بيكو.

جورج بيكو الفرنسي الذي لعب طويلا مع النخب البيروتية والدمشقية المسيحية والمسلمة ربما أحب بيروت ودمشق كمدينتين. لا أعلم. لكن الذي أعلمه أن المفاوض الانكليزي البارع مارك سايكس كان يحتقر حلب والموصل اللتين سيقرر مصيرَهما لاحقا. فكما كتب في كتابه “ميراث الخلفاء الأخير” يتحدث عن حلب والموصل كـ”مدينتين قذرتين” لا يمكن العيش فيهما دون أن يوفِّر “دمشق وتجار الآثار وفنادقها وقطعان الكلاب القذرة” فيها. ما هذا المقت سير مارك لمدن ساهمتَ في تقرير مصائرها؟

كل بيت في هذه المنطقة يملك ذاكرة الكتابة والقراءة خلال مائة عام، قصةُ حب وكراهية مع سايكس بيكو. في بعضها بدأت القصة بالكراهية كقصة حدود مصطنعة ثم اكتشف الجيل اللاحق والذي بعده أنه ليس فقط لم تكن مصطنَعة كليا كما ظنّ سلفُه أو حتى لو كانت كذلك، فقد حملت هذه الحدود الاستعمارية مشاريع دول ونخب دخلت في تجارب تحديثية حقيقية وأسست هوياتٍ وطنيةً أصيلة ومعاصرة وواعدة. والبعض سيكتشف أو سيعي أن الانهيار العميق بدأ عندما شرشح الجيل “الوطني” الجامعات الوطنية المحترمة التي تأسست على خرائط سايكس بيكو وأجهزة القضاء وحتى الجيوش الحديثة والإدارات ووووو… وفي لبنان لا شك أن الجامعتين الأهم اليوم في لبنان، الأميركية واليسوعية، ليس فقط في نظامنا التعليمي بل في معنى بنيتنا الوطنية، هما الجامعتان اللتان تأسستا قبل سايكس بيكو بعقود وضختا بعض أفضل نخب دوله الجديدة التي أشرفت على تأسيس جامعاته الوطنية كقسطنطين زريق في دمشق وفؤاد أفرام البستاني في لبنان قبل أن “تنهار” هذه الجامعات الوطنية أو معظمها استراتيجيا على أيدي الجيل الأكثر وطنجية بما فيه جيلي.

كل جيل في المنطقة منذ سايكس بيكو هو قاتل وضحية. قاتل فرصة الدولة الحديثة وضحية المناخ الراديكالي الذي ولّده تأسيس إسرائيل.

سايكس بيكو في قصته العميقة أو في أحد المستويات الكبيرة لمائة عام من حياته هو قصة فرصة تحديثية ضائعة لنخب ومجتمعات.

الفاجعة أن بدء انهيار سايكس بيكو عام 2011 كان قرارا غربيا: الثورة السورية الشبابية كانت محاولة وليدة وجهيضة لتجديد الدولة الوطنية السورية سياسيا. الذين دخلوا في العسكرة أجهضوا الثورة وضربوا الدولة وألغوا أو علّقوا حدود سايكس بيكو.

يقيم “بيت المستقبل” في 20 و21 أيار الجاري مؤتمرا يشارك فيه باحثون أجانب وعرب ولبنانيون بمناسبة المئوية الأولى لسايكس بيكو