IMLebanon

الفلسطينيون «مكشوفون» صحياً

 

 

لم تعد معاناة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات محصورة بسوء الأوضاع المعيشية أو باستثنائهم من الخدمات العامة، بل ازداد الثقل ليطاول صحتهم مع الانحدار المستمرّ في الخدمات التي كانت تقدّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

 

وإذا كان كثيرون منهم «تأقلموا» مع فكرة الانعزال داخل كيلومتراتهم المربّعة والاكتفاء بما يسدّ «جوعتهم»، كما يقولون، إلا أن ما لا طاقة على تحمّله هو تدهور صحّتهم التي أصبحت في دائرة الخطر بسبب انعدام التوازن بين أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وما تقدّمه وكالة «الأونروا» من جهة أخرى.

 

وليست الأزمة المالية الاقتصادية التي تمرّ فيها البلاد منذ عام 2019 السبب الوحيد الذي أدّى إلى تلك الفجوة، بل يمكن إضافة سبب آخر يتعلق بتغيير السياسة الصحية التي تصوغها إدارة الصحة في الوكالة التي تتأثر بقيمة ما تقدّمه الدول المانحة. لذلك، تراجعت المساعدات والمساهمات لـ«الأونروا» بعدما أوقفت الولايات المتحدة مساهماتها التي كانت تشكّل ما نسبته 30% من موازنة الوكالة، علماً أن لا موازنة محدّدة لـ«الأونروا»، بل تخضع لما تساهم به الدول المانحة، فكلما خفّت المساهمات، تقلّصت الخدمات وبالعكس.

 

مستشفى الهمشري في صيدا هو «الأقرب» لمرضى غسيل الكُلى في مخيمات بيروت

 

 

وانعكس الشحّ في المساهمات «ترشيداً» في الخدمات المقدّمة، ومنها الصحية، علماً أن ملامح هذا التدهور بدأت منذ عام 2010، مع «جسّ النبض» الذي قامت به الوكالة عندما أعلنت خفض التغطية الاستشفائية إلى 60%، تُسدّد على أساس تعرفة وزارة الصحة. وكانت هناك معضلة أخرى تتعلق بفوارق التعرفة بين المستشفيات الخاصة المتعاقدة مع الوكالة ووزارة الصحة، ما كان يضاعف من قيمة الفروقات التي يجب على المريض دفعها. وفي عام 2016 «حدّثت» الوكالة السياسة الصحية، وأضافت إليها شقاً يتعلّق بـ«مساهمة المريض»، أو ما سُمي بـ»patient share»، بحيث لم تعد نسبة الـ60% ثابتة في التغطية الاستشفائية، وتراجعت إلى 30% في بعض الحالات.

 

يومها، ووجهت تلك السياسة بإضرابات متنقّلة امتدّت لستة أشهر، تمكّن خلالها المتابعون للملف الصحي من انتزاع قرار من الوكالة يقضي برفع التغطية إلى 90%، مقابل أن يدفع المريض 10% في المستشفيات الحكومية ومؤسسات الهلال الأحمر الفلسطيني.

 

سارت الأمور على تلك الوتيرة إلى أن حلّت الأزمة المالية، وتراجعت الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية مع الغلاء الذي لحق بكل شيء، وانعكس ذلك على المستشفيات الخاصة التي رفض معظمها التعاقد مع «الأونروا»، خصوصاً في بيروت. وفي هذا السياق، تشير المصادر إلى أنه «باستثناء مستشفى الرسول الأعظم الذي لم تتعاقد معه الوكالة لاعتبارات سياسية، لم يقبل سوى مستشفى خاص واحد في بيروت (الساحل) بالتعاقد مع الوكالة».

 

ورغم أن قائمة المستشفيات التي تتعاقد معها الوكالة تتوسّع أكثر في المناطق، إلا أن غالبية هذه المستشفيات تتعامل مع المريض وكأن لا عقد موجود، إذ «تطلب من المريض دفع تأمين قبل الدخول، على أن تعيد له ما يدفعه عندما تدفع الوكالة للمستشفى».

 

أما بالنسبة إلى المستلزمات الطبية، فتلك معضلة أخرى، إذ إن سقف ما يمكن أن تساهم به الوكالة «هو 500 دولار، فيما يتكفّل المريض بالباقي ولو وصل المبلغ إلى عشرات آلاف الدولارات». أما حالات الطوارئ، فمن دون سقف ولا تخضع تالياً لمساهمة الأونروا، ولذلك، الدفع هنا غالباً ما يكون على حساب المريض. وإن كان الفلسطينيون يلجؤون إلى المساعدة من الضمان الصحي الفلسطيني، إلا أن هذه المساعدة لا تفي بالغرض، ولذلك يكبر اليوم مصطلح «اللميّة»، حيث يتعاون الناس لتأمين فروقات العلاجات أو العمليات.

 

وثمة أزمة أخرى يعانيها هؤلاء تتعلق بمرضى غسيل الكُلى، إذ لا يوجد مستشفى في بيروت يستقبل هذه الحالات، والمكان الأقرب لمرضى الكُلى في مخيمات بيروت هو مستشفى الهمشري في صيدا، مع ما يعنيه ذلك من كلفة، خصوصاً أن الكثير من المرضى يحتاجون إلى علاج يتخطى ثلاثة أيام في الأسبوع. أما بالنسبة إلى مرضى السرطان، فيخضع هؤلاء في علاجاتهم لسقف حدّدته «الأونروا» سابقاً بثمانية آلاف دولار، وارتفع إلى 12 ألفاً ثم 16 ألفاً. غير أن هذا لا يكفي لأكثر من نصف كلفة العلاج في أحسن الأحوال، ما يضطر المريض إلى استكمال مشواره وحيداً.

 

وانسحب هذا التقليص في الخدمات على الأطباء والممرضين، إذ تتّبع اليوم الوكالة سياسة جديدة مع هؤلاء قائمة على اعتبارهم مياومين، فتدفع لهم الأجرة «ع القطعة» وليس على أساس عقد بين الطرفين، ما ينعكس عدم استقرار لدى هؤلاء.

نصف الفلسطينيين هربوا من «جحيم» لبنان | اللاجئون لعباس: «نحن هنا»

زينب حمود

 

«حق العودة صار آخر ما نفكّر فيه في ظلّ الظروف الصعبة التي نعيشها. قبل العودة نريد أن نعيش حاضرنا بكرامة، ونريد أن نبقى على قيد الحياة لنتمكّن من العودة». هكذا يعبّر وليد عن واقع اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتظرون وصول رئيسهم محمود عباس إلى لبنان، ويأملون بعد 77 عاماً من «التغريبة» أن «يلتفت أحد إلينا كبشر لا جماعات تعيش في منطقة معزولة تُسمّى مخيماً، ولا حتى كقضية سياسية وملفات أمنية».

 

على طاولة الحوار السياسي – الأمني، يفتّش اللاجئون عن عناوين كثيرة تتعلّق بواقعهم الإنساني المُزري، وهل سيتوقف المجتمعون عند تقليص وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خدماتها ويبدّدون هواجسهم من أن تنسحب تدريجياً قبل عودتهم إلى ديارهم؟ وهل سينشغلون بسلاح المقاومة الفلسطينية عن تجّار السلاح والمخدّرات التي تهدّد أمن المخيمات؟

 

هناك 520 ألف لاجئ فلسطيني مسجّلون في لبنان، لكن فعلياً يُقدّر عددهم بـ 280 ألفاً، وقد سجّل 230 ألفاً فقط في برنامج «نداء الطوارئ» الذي أطلقته «الأونروا» لدعم جميع اللاجئين الفلسطينيين بعد الحرب الأخيرة، بحسب مدير منظمة «ثابت» لحق العودة سامي حمود. ما يعني أن نصف اللاجئين الفلسطينيين هربوا من لبنان بحثاً عن ظروف حياة أفضل من بلد تسوده قوانين مجحفة وأداء رسمي تمييزي وعنصري لا ينظّم اللجوء بقدر ما يخنق اللاجئين لتهجيرهم ثانية، ومن فصائل ولجان تركّز على الزعامة والسلطة أكثر من إدارة شؤون الفلسطينيين، ومن سلطة نسيت بعد 77 عاماً أن لها مواطنين خارج الحدود الجغرافية الضيقة.

 

حتى بعد وفاتهم، لا مثوى للاجئين الفلسطينيين بعد امتلاء المقابر

في بيروت

 

سياسة خنق اللاجئين الفلسطينيين تبدأ من معاملتهم كأجانب لدى منحهم تراخيص عمل، رغم معرفة السلطة اللبنانية بأن لا بلد يعود إليه الفلسطيني في الوقت الحالي، ناهيك عن حرمانهم من مزاولة معظم المهن، كالطب والصيدلة والتمريض والمحاماة والهندسة والتعليم… و«عدم فتح باب العمل إلا عندما يظهر نقص في قطاع ما، لذلك سمحت نقابة الممرضين للفلسطيني أن يقدّم طلب رخصة عمل في التمريض بعدما احتاج سوق العمل اللبناني إلى ممرّضين»، كما يقول الباحث القانوني في شؤون اللاجئين الفلسطينيين سهيل الناطور.

 

إزاء ذلك، «يلجأ الفلسطيني مهما حاز من قدرات ومؤهّلات وشهادات إلى المهن الرخيصة في السوق الرمادية والعمل اليومي وبالساعة، وفي الأعمال الموسمية كالزراعة، والأعمال الشاقّة التي لا يقبل بها اللبناني كالبناء والعتالة، وبما لا يتجاوز 300 دولار شهرياً. كما يرضى بأجر أقلّ من غيره من العمال ويتغاضى عن معاملة سيئة يفرضها صاحب العمل كونه الحلقة الأضعف».

 

وعندما يجد الفلسطيني عملاً منظّماً، يلفت الناطور إلى أنه «يُحرم من أي تغطية صحية من الضمان الاجتماعي رغم تسديد الاشتراكات المتوجّبة عليه، وفق مبدأ المعاملة بالمثل لأن الدولة الفلسطينية لا تضمن اللبناني». وبحجة حق العودة، يُمنع اللاجئ الفلسطيني من حقّه في التملّك، فيعيش ويموت من دون أن يملك منزلاً أو محلاً أو قطعة أرض يورثها لأولاده. وعليه، حُكم على الفلسطينيين أن يعيشوا داخل المخيم في ظلّ ارتفاع بدلات الإيجار خارجه، وهم يتوزّعون على «12 مخيماً (52% منهم)، وأكثر من 50 تجمعاً سكنياً (48%)»، بحسب حمود.

 

وتكفي زيارة واحدة لأي مخيم فلسطيني لإدراك صعوبة الحياة التي تشبه إلى حدّ بعيد الحياة في سجن لا يدخله الضوء، فيشعر الزائر لوهلة بأنّ الناس يعيش بعضُهم فوق بعض. فهذه المخيمات أنشئت عام 1948 لتستقبل عدداً معيناً من العائلات «لفترة أسبوعين كما وعدونا»، كما تقول سيدة فلسطينية ساخرة في مخيم برج البراجنة. اليوم، «في مخيم برج الشمالي في صور مثلاً، ارتفع عدد الفلسطينيين من 5 آلاف لاجئ عام 1948 إلى 22 ألفاً». تحايل الفلسطيني بكل الطرق ليسعه هذا «السجن»ـ أولاً أفقياً، ثم عمودياً، فتحوّل البيت إلى بناء من 5 و6 طبقات.

 

وهذا ما «يشكّل خطراً حقيقياً على حياة السكان. ويروي مسؤول اللجان الشعبية في بيروت علي الرفاعي كيف «كاد مخيم مار الياس أن يحترق منذ أسابيع بسبب تعذّر دخول آلية الإطفاء إلى مكان الحريق وسط المخيم، فيما نقل مريض أو جنازة يتطلّب أحياناً كثيرة استخدام أسطح الأبنية». ويضيف أنّ «بناء طبقات إضافية بصورة غير نظامية بات يهدّد سلامة السكان، فهناك في مخيم برج البراجنة مثلاً 74 وحدة سكنية آيلة للسقوط من أصل 850».

 

وحتى بعد وفاتهم، لا يعرف اللاجئون الفلسطينيون «وين منروح بروحنا»، بعد امتلاء المقابر خاصة في بيروت، فـ«بعدما رفضت مقبرة الباشورة مثلاً استقبال الفلسطينيين، افتُتحت مقبرة إلى جانب مخيم برج البراجنة لكنها امتلأت أيضاً. أعطانا وليد جنبلاط أرضاً في الشوف من دون أن تحلّ الأزمة فعلياً، وتكاليف الدفن تحتّم علينا جمع التبرعات لتغطيتها»، بحسب الناطور. هكذا يعيش اللاجئ الفلسطيني في لبنان الأزمات كيفما دار، وتتراكم الملفات الإنسانية الطارئة من فقر وبطالة وتسرّب مدرسي وتحديات للحصول على الحق في السكن والطبابة والزواج والإنجاب، عدا غياب أي متنفّس للترفيه وتفريغ الطاقات. كل ذلك «يهدّد بانفجار المخيمات اجتماعياً وأمنياً وتفلّت ظواهر اجتماعية وآفات معقّدة».

 

وبات معروفاً انتشار المخدّرات في المخيمات الفلسطينية، تعاطياً وتجارة، حتى إنها تُباع في بعض المخيمات «على عينك يا تاجر». السؤال المهم: هل أبناء المخيم يقبلون بذلك أم أنه واقع مفروض عليهم؟

 

جميع من التقتهم «الأخبار» في مخيمات برج البراجنة ومار الياس وعين الحلوة يؤكدون «أننا بالطبع لا نقبل بهذا الوضع»، ويجد البعض أنفسهم «ضحية مؤامرة تهدف إلى تخريب المخيمات وعزلها وإلهاء أبنائها بالمخدّرات والتغاضي عن كل ما يحصل طالما أنه لا يخرج من حدود المخيم»، ويعيد البعض الآخر كل ذلك إلى «نقمة» اللاجئ من تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحالة اليأس والإحباط التي وصل إليها.

 

كلّ المقاربات التي ترتبط بالمخيّمات الفلسطينية والتفلّت الأمني تقوم على تشويه صورة اللاجئ الفلسطيني والتخويف من «حقل الألغام» الذي يُسمى «مخيماً»، بعدما تحوّل إلى «بؤرة لتجار المخدّرات والفارّين من العدالة»، من دون أن يفكّر أحد بـ«إيقاف تسونامي المخدّرات ومدّ أي طوق للنجاة»، كما يقول الرفاعي.