IMLebanon

الاستشارات النيابية الملزمة: رئيسٌ مكلّفٌ أن لا يؤلف

الأكثر مدعاة للتعاسة منه للعجب، في الاستشارات النيابية الملزمة، أن الكتل والنواب الفرادى سيسمّون رئيساً مكلفاً لحكومة لن تُؤلَف. لا أحد منهم، مؤيدي الرئيس نجيب ميقاتي أو السفير نواف سلام، يتوقع تمكنه من تأليف خامسة حكومات العهد وآخرها

ليس مؤكداً أن المهمة المنوطة بالرئيس المكلف، المسمَّى اليوم، ستحرم حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي من حظ أن تكون هي، لا سواها، الحكومة الأخيرة في العهد الحالي. ليست المرة الأولى يجبه ميقاتي تنافساً محموماً. أولاها كانت قليلة الأهمية حينما لم يحز منافسه النائب السابق عبد الرحيم مراد، في 16 نيسان 2005، سوى على تسعة أصوات بينما نال ميقاتي 57 صوتاً وأودع 45 نائباً بتنسيق مسبق اسم مرشحهم عند الرئيس إميل لحود، في مقابل تحفظ ثلاثة نواب وامتناع تسعة. ثانية جولاته كانت في 25 كانون الثاني 2011، بنيله 68 صوتاً في مواجهة قاسية مع الرئيس سعد الحريري الذي نال 60 صوتاً. ثالثتها في الاستشارات النيابية الملزمة اليوم ذات دلالة مختلفة.

تتصرّف الكتل والنواب الفرادى على أنهم يُجرَّون إلى التسمية لأن الاستحقاق دستوري وواجب وحتمي. هذا ما لا يسعهم تجاهله. بيد أن حجم المأزق القائم، قبل أقل من خمسة أشهر على نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، يُحضّر البلاد لمتاعب جمة، ستكون بدورها غير مسبوقة بطابعها الشامل. في سوابق الماضي أجزاء منها متفرقة، متقاربة أحياناً، ومتباعدة.
أما المأزق الشامل المتوقع، والبعض يفضّل أن يصفه المنتظر، فهو احتمال انتهاء ولاية رئيس الجمهورية دونما أن تخلفه حكومة عاملة دستورياً، قادرة على الاجتماع في مجلس الوزراء وعلى المثول أمام مجلس النواب ومخاطبة الخارج، تملك أن تنتقل إليها صلاحيات الرئيس المنتهية ولايته، في مرحلة كل ما يحوط بها هبط إلى القعر. أما الأقرب منالاً، فهو أن المرشحيْن المتداوليْن للتكليف، ميقاتي والسفير نواف سلام، لا يملك أي منهما الغالبية التي لا تكتفي بتسميته فحسب، بل تمكنه من تأليف الحكومة.

 

من حول كل منهما غالبية نسبية، تتيح لأحدهما صاحب الأصوات الأكثر عدداً أن يصبح رئيساً مكلفاً، سيعجز في وقت لاحق عن تأليف حكومة يحتاج مرورها في مجلس النواب إلى الغالبية المطلقة من الأصوات. وهو النصاب المتعذر حتى الآن على الأقل، إن لم يطرأ ما ليس في الحسبان في ما بعد. ليس اليوم بالضرورة.
أما ما يستكمل الحلقة هذه كي تقفل بالكامل، فهو أن تسمية ميقاتي تجعله يتوئم ما بين تصريف الأعمال والتكليف والتأليف المعطل، فيستمر في كل حال على رأس حكومة تصريف أعمال إلى بعد إخفاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. أما تكليف سلام، فيستمر إلى موعد نهاية ولاية الرئيس الحالي. إذا تعذر عليه تأليفها ودخلت البلاد في شغور رئاسي، يفقد تكليفه للفور كون الشريك الآخر المرافق له في رحلة التأليف وصاحب التوقيع الأصلي، كما الرئيس المكلف، لم يعد في منصبه. بمغادرة عون قصر بعبدا يعود الرئيس المكلف مواطناً عادياً، ويستعيد رئيس حكومة تصريف الأعمال الصدارة.
لم يسبق أن جرّب لبنان كل هذه المعضلات دفعة واحدة: عام 1988 شغرت الرئاسة الأولى، فانقسمت البلاد بين حكومتين إحداهما دستورية وأخرى واقعية. عام 2007 شغرت مجدداً، فانتقلت صلاحيات الرئيس إلى حكومة مطعون في شرعيتها لاستقالة طائفة أساسية، مزيداً إليها أنها مسلحة، من صفوفها ما قاد البلاد إلى بروفة ناجحة لفتنة. عام 2014 شغرت للمرة الثالثة، فحلت الصلاحيات والسلطة في حكومة مشظاة إلى حكومات صغيرة.

 

في كل من السوابق تلك، غير المتقاربة أكثر منها المتشابهة سوى في الشغور الرئاسي، لم يسع أي من الأفرقاء اللبنانيين آنذاك ـ للمفارقة أنهم أنفسهم أبطال اللعبة الحالية طوال قرابة عقدين ونصف عقد من الزمن ـ أن يستقرئ مآل ما سيحدثه تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو صلب المشكلة، وإلى أين يُحتَمل أن يقودهم جميعاً. قاد شغور 1988 إلى اتفاق الطائف، وشغور 2007 إلى اتفاق الدوحة، وشغور 2014 إلى تسوية انضموا إليها جميعاً، ظاهراً وسراً، فأوصلت البلاد إلى التحت الذي لا تحت تحته.
المتوقع في الاستشارات النيابية الملزمة اليوم، بسيط للغاية وحقيقي للغاية أيضاً. تنتهي بتكليفٍ يسلّم به رئيس الجمهورية أياً يكن المسمَّى له. من ثم يبدأ شقاء الشخص المختار بصعوبات ليس أقلها:
1 ـ إن المناورة الدارجة منذ عام 2008، وأول آبائها الرئيس فؤاد السنيورة، غير ذات جدوى: أن يضع الرئيس المكلف التكليف في جيبه ويتلطى وراءه، ويمرر الوقت عساه ينهك الأفرقاء مفاوضيه، كما رئيس الجمهورية، حتى يتعبوا ويسلّموا بشروطه، إن لم يبرم اتفاقاً معهم. هذه المرة عليه أن يمر من خرم إبرة ما تبقى من الولاية: إما يؤلفها سريعاً قبل الوصول إلى المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد أو ينتهي أمر تكليفه. لا يملك أن يتسلى به ويهدر الأيام، وينتظر تبادل الأسماء واللوائح. سيكون أمام قيد غير محسوب يصعب التلاعب به.
2 ـ ما يقتضي أن لا يُنسى أن عون، وإن في السنة الأخيرة في ولايته، لا يزال يملك أقوى أختام الجمهورية. هو توقيعه مراسيم تأليف الحكومة. هذه المرة كي ينجو الرئيس المكلف بحكومة جديدة قبل ولوج الشغور الرئاسي، عليه أن لا يكتفي بالحصول على موافقة الرئيس على تشكيلتها، بل كذلك عدم إغضاب حلفائه الرئيسيين. المقصود هنا بالذات حزب الله. مؤدى ذلك أن لا حكومة متوقعة يمكن فرضها على الرئيس، ولا يصبح ذا أهمية نيل الرئيس المكلف عند تسميته نسبة عالية من الأصوات، عارفاً في نهاية المطاف أنه سيقرع أبواب ختم رئيس الجمهورية. الذي يصحّ أيضاً، على الأقل بحسب ما قاله عون أخيراً، أنه يفضّل حكومة سياسية. سبب إضافي لحجب الختم عن حكومة تصريف الأعمال معوَّمة وإن بمراسيم جديدة كما يرغب ميقاتي.

أول التكليف أصوات النواب وآخره ختم رئيس الجمهورية

3 ـ لأن انتخابات 15 أيار أفضت إلى برلمان الأقليات المتعارضة، سيكون من الصعب على الرئيس المكلف التحوّل إلى كيميائي ناجح، يُحدث معادلة تنجم عن خلط أقليتين بعضهما ببعض، هما أقرب ما تكونان إلى زيت وماء. الأفرقاء المؤيدون لتكليف ميقاتي، كالثنائي الشيعي ومعه حلفاؤه المتفرّقون، يصعب تجاهله لأسباب مباشرة غير خافية مرتبطة بحجمه في طائفته وإمساكه بها وبفائض قوته وبتحالفه ـ في أحسن الأحوال حزب الله ـ مع عون. والأفرقاء المناوئون لتكليف ميقاتي لا يُحسَدون على حيرتهم: بينهم مَن يريد مرة ولا يريد مرة أخرى سلام، وبينهم مَن اختار سلفاً الورقة البيضاء، وبينهم مَن لا يزال يبحث عن اسم ثالث، وبينهم مَن ينتظر الدقيقة الأخيرة للمقايضة، وبينهم أخيراً مَن لا يُحسب حسابهم. أما المؤيدون لتكليف السفير السابق ـ ذي الكفاية العالية والمقدَّرة ـ فلا يعدو موقفهم سوى زكزكة الحماة بالكنّة.