عيّن لبنان لجنة لصياغة ردّ أولي على مطالب الولايات المتحدة، التي تدعو “حزب الله” إلى التخلّي عن سلاحه بحلول شهر تشرين الثاني المقبل، مقابل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية. وتضمّ اللجنة ممثلين عن مكتب رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب. حتى اليوم، لم يلتزم “حزب الله” تسليم سلاحه، من دون أن يُبدي في المقابل رفضًا للتعاون مع هذه اللجنة.
وفي هذا السياق، أعادت خطب عاشوراء التي ألقاها أمين عام “حزب الله” إحياء السؤال الذي لا يغيب: من يتحكم بالقرار في لبنان؟ بين تأكيده التمسك بالسلاح، وسعيه إلى إعادة تعريف السيادة الوطنية من منظوره، يُقدّم الأمين العام لـ”الحزب” مضموناً خطابيًا يعكس توتر العلاقة بين الدولة ومجموعته المسلحة. وقد أدّى تفكيك هذا المضمون إلى كشف التلاعبات الخطابية التي تعبّر عن صراعاتٍ تتجاوز الكلمات، وصولًا إلى معركة السيطرة على القرار السياسي في لبنان.
ولأن تواصل القادة السياسيين يحمل دلالات على نواياهم واعتباراتهم الاستراتيجية، ولأنهم يتواصلون بنوايا متعددة الطبقات وموجّهة إلى جماهير متنوعة، فإن تحليل ما “يفعله” الأمين العام بكلماته، وبالدلالات غير المنطوقة، يساعد في توقّع التحركات الاستراتيجية المستقبلية.
بالفعل، يعكس مضمون خطب الأمين العام لـ “حزب الله”، بُنية خطابية مشحونة بالرموز، تنتمي إلى ما يُسميه نورمان فيركلو (Fairclough) بـ “الخطاب الهيمني”، حيث تُعاد علاقات القوة إنتاجًا عبر اللغة، من خلال التلميح والتأطير الرمزي. واللافت أيضًا هو اعتماد ما يُسميه جون أوستن (Austin) “الفعل الكلامي التوجيهي”، حيث يُستخدم التهديد والوعيد المبطّن، كما في عبارتًي “لا أحد يمزح معنا” و”نحن نُحدد كم هي الفرصة”، للتأثير في سلوك الخصم، من دون الاضطرار إلى التصريح بنيّة المواجهة الفعلية. هذه الصيغة، التي تُتيح لـ “حزب الله” هامشًا زمنيًا وسياسيًا، تُنتج ما يمكن تسميته بـ”الردع الرمزي”، وهو ردع يعمل على المستوى النفسي والإعلامي أكثر مما يعمل على الأرض.
كذلك، يعتمد الخطاب على الرموز الدينية والتاريخية الكبرى، مثل “الحسين، سيّد الشهداء”، و”هيهات منا الذلّة”، “نحن دائماً نقول إن أي نصر يحصل معنا هو نصر إلهي”، لإضفاء طابعٍ مُقدّس على خيارات “حزب الله”، ما يُنتج نوعًا من “التحصين المعنوي” ضد أي محاولة داخلية للتشكيك في شرعيتها. وهذا النوع من الاستعارات المفهومية يُستخدم لترسيخ التصورات السياسية بوصفها “قدرًا أخلاقيًا”، لا مجرّد خيارٍ استراتيجي. والأهمّ أن إضفاء الطابع المقدس يسمح بتجاوز المساءلة، والتذكير بأن الانتصار مضمون دينيًا، لا سياسيًا.
وما لم يُذكر صراحة في الخطب هو التالي: تسمية الأطراف اللبنانية المعارضة، التي لمّح إليها الأمين العام بوصفها “ضعيفة” أو”متواطئة”. ولأنه ربط بين “الضعف” و”الخيانة”، فهذا بالطبع يُنتج مناخًا من التشكيك والاتهام الشامل. وعندما يؤكد التزام مجموعته حماية الحق في الدفاع والمواجهة، فمعناه أنه يُعلن ضمنيًا أن قرار الحرب والسلم ليس حكرًا على الدولة اللبنانية، بل هو في يد “حزب الله” وفقًا لرؤيته الخاصة، و”متى يشاء”. إنه إعادة لصياغة مفهوم “السيادة'” يكشف عن سلوك أحادي يتم باسم “الدفاع” ومن دون موافقة وطنية جامعة.
هكذا، تُعاد صياغة العلاقة بين “حزب الله” والدولة، عبر خطاب يستمر في تجويف مؤسسات الدولة من وظائفها الأساسية، دون الحاجة إلى مواجهتها صراحةً.
ومن غير المنطوق أيضًا، التأكيد على القوة بهدف إخفاء القلق: “نحن قادرون على الإسرائيليين”، “تعالوا لملاقاتنا حتى تروا كيف نربح”، و”لا أحد يمزح معنا، كل شيء له حدود”. هذا التكرار يدل ضمنيًا على رغبة في تثبيت صورة القوة، ويعكس قلقًا خفيًا من تغيّر موازين القوى. لذلك، يلجأ الأمين العام إلى استخدام رسائل مزدوجة، مثل قوله: “نحن لن نصمت”، لكنه يضيف “عندما يكون عندنا خيار العِزّة”. ما يمنحه مساحة للمناورة السياسية والزمنية، ويخلق “ردعًا لغويًا” وليس فعليًا، فيُبقي الجماهير والخصوم في حالة ترقب دائم.
بناءً على ما سبق، يتّضح أن خطب الأمين العام لـ”حزب الله” الأخيرة لا تسعى إلى الإقناع بقدر ما تسعى إلى الهيمنة. فهي نموذج لممارسة القوة الخطابية ليس فقط من خلال ما يُقال، بل عبر ما يُلمّح إليه، ويُسكت عنه. بالتالي، إنه مضمون يتجاوز الوظيفة الإخبارية ليُعيد صياغة العلاقة بين “حزب الله” والدولة. لكن أخطر ما قيل “ما زلنا قادرين. اصبروا، فالأمور تتغير وتتبدل”. “إن إسرائيل اليوم متغولة، وبالتالي فإن أميركا متغولة معها، وتريدان استثمار اللحظة لقلب المعادلة”. أي أن الغد ممكن أن يكون أفضل، فلننتظر ونراوغ، ولْنستخدم أمضى أسلحتنا، وهو الوقت.
أخيرًا، مع تمنياتنا بالنجاح للجنة صياغة الردّ على مطالب واشنطن، لا بدّ من الإشارة إلى أنه منذ أن كانت للبشر أفواه تتكلم وآذان تسمع، أدركوا أن مستوى الحقيقة الكامن في أكثر المعلومات براءة غير ثابت ولا مضمون؛ فليس هناك أسهل من الجمع بين التقريب غير المقصود والخداع المتعمد.