IMLebanon

قراءة سياسية في الهبّة الشعبية الفلسطينية

شهدت مدينة القدس هبّة شعبية جديدة هي الثانية من نوعها، بعد «هبة النفق» (1996)، التي حصلت أيضاً في عهد بنيامين نتانياهو الأول في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (1996- 1999)، بسبب قيام سلطات الاحتلال بحفر نفق تحت المسجد الأقصى. وللتذكير فقد استخدمت في الأولى، التي استمرت لثلاثة أيام، الأسلحة النارية، بحكم مشاركة رجال الأمن الفلسطينيين، ما نجم عنه مصرع 67 فلسطينياً مقابل 17 إسرائيلياً، فإن الثانية، التي استمرت لأسبوعين (14-28/ 7)، غلب عليها طابع المواجهة الشعبية السلمية، رغم مصرع 15 من الفلسطينيين وخمسة إسرائيليين.

في القراءة السياسية من الجهة الفلسطينية، لعل أهم ما يمكن ملاحظته في هذه الهبّة، أولاً، أن الفلسطينيين، هذه المرّة، اعتمدوا على امكاناتهم الذاتية، أي قوة الإيمان والتصميم لديهم، لا سيما القدرة على تحشيد كتل شعبية كبيرة، في الاعتصامات والتظاهرات وأداء الصلوات، على امتداد أيام الهبّة الـ 14، وفي مختلف الأماكن التي أمكن الوصول إليها، في المدينة القديمة في القدس أو في الطريق إليها. ولعل هذا الوضع هو الذي أربك إسرائيل، وقيّد جبروتها، وحيّد قدرتها على استخدام قواتها العسكرية في مواجهة المنتفضين السلميين المحتشدين في الشوارع كاسرين هيبة الجيش الإسرائيلي. ثانياً، لم ترفع في هذه الهبّة أية أعلام فصائلية، فقط العلم الفلسطيني كان هو الراية التي جمعت كل الفلسطينيين، ما أعطى لهذه الهبة قيمة وطنية عالية. ثالثاً، جسّدت هذه الهبّة وحدة الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، أي أن فلسطينيي القدس لم يتركوا لوحدهم في هذه المعركة، إذ كان فلسطينيو كل مدن وقرى الضفة معهم، وكذلك فلسطينيو 48 كانوا في مقدم المشاركين في الدفاع عن القدس وتحدي سلطات الاحتلال، من دون فرق بين مسلم أو مسيحي. رابعاً، حصل، هذه المرة أيضاً، نوع من الانسجام بين موقف القيادة الفلسطينية (وهي هنا قيادة المنظـمة والســلــطــة و«فتــح») والشارع الفلســطيني، وتمــثل ذلك في مسارعة هذه القيادة إلى رفض الإجراءات الإسرائيلية رفضاً مطلقاً، وإعلان وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وإشهار يوم الجمعة يوم غضب فلسطيني، وهذا كله ساهم في إنجاح الهبّة، واستنهاض الروح الكفاحية عند الفلسطينيين، وتفويت الأهداف الإسرائيلية. خامساً، على الصعيد العربي والدولي كان ثمة تعاطف كبير مع هبة الفلسطينيين، الشعبية والسلمية، ما أدى إلى عزل إسرائيل، وإظهارها مجدداً على حقيقتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، الأمر الذي أربك موقفها، وجعلها في ما بعد تتراجع عن كل إجراءاتها التعسفية والاحتلالية، فيما اعتبر انتصاراً لإرادة الفلسطينيين في هذه الجولة. سابعاً، ربما أن هذه الهبّة تعطي درساً للقيادة الفلسطينية، أو تدفعها الى مراجعة تجربتها وخياراتها، فهي المسؤولة عن عقد اتفاق أوسلو (1993)، الذي مكّن إسرائيل من التلاعب بحقوق الفلسطينيين في أرضهم، بإغفال أو تأجيل البتّ في القضايا الأساسية (القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود)، وهي التي حصرت خياراتها منذ ربع قرن في المفاوضات، من دون اعتماد خيارات بديلة أو موازية، ورضخت لعلاقات التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، وقيدت قدرة الفلسطينيين على الكفاح حتى بالأشكال الشعبية، فضلاً عن استمرائها الواقع وحؤولها دون تطوير وتفعيل وإعادة تأهيل كيانات المنظمة والسلطة والفصائل.

ومن باب المراجعة النقدية قد يجدر التذكير أن الانتفاضة الثانية (2000 – 2004)، كانت اندلعت بسبب انتهاك آرييل شارون حرمة المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال، والتي سرعان ما تحولت مواجهات مسلحة، ما نجم عنه مصرع حوالى 5000 من الفلسطينيين مقابل 1040 من الإسرائيليين، مع قيام إسرائيل باستخدام قواتها العسكرية، ومعاودة احتلال مدن الضفة، والشروع ببناء الجدار الفاصل، وتعزيز بناء المستوطنات، والحد من وصول الفلسطينيين إلى القدس، وإغلاق المؤسسات الفلسطينية فيها.

في المقابل، فإن أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني كانت تجلّت في الانتفاضة الأولى (1987 – 1993)، وفيها كانت القدس بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزاً قيادياً لانتفاضتهم، لا سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات صدقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني. وبرز في تلك الفترة مركزان فلسطينيان اضطلعا بدور كبير في تلك الانتفاضة، الأول، هو المسجد الأقصى، إذ باتت صلاة الجمعة، التي كان يحتشد فيها مئات ألوف الفلسطينيين، بمثابة واحدة من أهم مظاهر الانتفاضة ورفض الفلسطينيين للاحتلال، والتحريض على المقاومة. والثاني، «بيت الشرق»، الذي كان بمثابة مركز توجيه للانتفاضة، وكمعبّر عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، إذ بات مقراً يزوره وزراء أجانب وسفراء وقناصل ومراسلو وسائل إعلامية.

والقصد من هذه المقارنة أن الهبّة الشعبية الحاصلة في القدس مؤخّراً تشبه كثيراً الانتفاضة الأولى، في حين إنها تفترق عن الانتفاضة الثانية، ما يؤكد أن هذا الشكل هو الأكثر تناسباً مع إمكانات الفلسطينيين، وظروفهم الصعبة، والشكل الأجدى، والطويل النفس، الذي يمكنهم من تحقيق مكاسب بالتدريج على إسرائيل، وضمن ذلك الاستثمار في تناقضاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، واستدرار تعاطف العالم مع قضيتهم العادلة، وهو أمر ضروري لهم للتعويض عن الخلل في موازين القوى. ونجم عن كل ذلك أن الانتفاضة الأولى حيّدت التفوق العسكري لإسرائيل وكشفتها على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية، وحرمتها من تبجحها بكونها دولة حداثية وديموقراطية ومن احتكارها مكانة الضحية، وهو الأمر الذي لم يحصل في الانتفاضة الثانية، التي أظهرت فيها الفصائل الفلسطينيين وكأنهم يملكون قوة، وكأنهم في دولة مستقلة، بل ويخوضون حرباً، كجيش في مقابل جيش.

أما من جهة إسرائيل، فقد كانت في هذه المواجهة، وكالعادة، هي الجهة المعتدية، والمسؤولة عن المواجهات الحاصلة، على رغم العملية التي أودت بحياة جنديين في الجيش الإسرائيلي (14/7)، الذين صدف أنهم من الفلسطينيين (الدروز) من الذين يخدمون في الجيش. فبغض النظر عن رأينا في تلك العملية، وجدواها، لا سيما في الظروف الراهنة، فإن مسؤولية إسرائيل تنبع، أولاً، من اعتبارها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وهذا كله، مع السياسات الناجمة عنه، يشكل عدواناً على حقوق الفلسطينيين وأراضيهم ومواردهم، وعلى هويتهم وحاضرهم ومستقبلهم. وثانياً، لأن الذين تم استهدافهم في العملية المذكورة استهدفوا فقط لأنهم جنود في جيشها، أو في أجهزتها الأمنية، أي جنود احتلال، وليسوا مدنيين، وليس لأي سبب آخر. وثالثاً، لأن الجنود المستهدفين وجدوا في المكان الذي لا ينبغي أن يكونوا فيه، أي في باحات المسجد الأقصى، وليس خارجه، وفي ذلك انتهاك لمقدسات الفلسطينيين واستفزاز واضح ومتعمّد لهم، لا سيما أن إسرائيل ومستوطنيها المتطرفين، الدينيين والقوميين، يتحدثون صراحة عن نيتهم السيطرة على المدينة القديمة (داخل السور) وهدم المسجد الأقصى وإقامة ما يسمونه «الهيكل الثالث».

بيد أن إسرائيل، التي تتملكها روح الغطرسة والعصبية والقوة، تتنكر لهذا الواقع، لأنها تتنكر أصلاً لحقوق الشعب الفلسطيني، باعتبارها أن فلسطين/إسرائيل «أرض الميعاد» خاصتها، التي وعد بها «الرب» شعبه المختار، وهي التي تدّعي الحداثة وأنها واحة العلمانية في صحراء الشرق الأوسط!

طبعاً لا تنحصر المعركة داخل المدينة القديمة (داخل السور) التي يجري الصراع فيها على كل شبر، وإنما يشمل تغيير طابع القدس الشرقية بمجملها، وضم المستعمرات المجاورة، لا سيما معاليه أدوميم، كبرى مستعمرات الضفة، بحيث تصبح القدس ممتدة من جهة الشرق إلى البحر الميت ومن جهة الشمال إلى رام الله، ما يقطع الضفة الغربية إلى قسمين، شمالي وجنوبي، ناهيك عن مصادرة أراضي المدن المجاورة مثل بيت جالا وبيت ساحور وبيت لحم، التي يقضم الجدار الفاصل والطرف الالتفافية مساحات واسعة منها.

الفكرة هنا أن إسرائيل، في هذه المعركة، لم تستطع أن تفرض إرادتها السياسية على الفلسطينيين، على رغم قوتها العسكرية العاتية، وأنها لم تستطع الاستثمار في هذه الظروف الدولية والإقليمية والعربية المواتية لها، للمضي في مخططاتها إضعاف الفلسطينيين، وتهويد القدس، وفرض سيادتها على المدينة القديمة، على نحو ما تتمنى أو تفترض.

وباختصار هذه معركة نجح الفلسطينيون فيها، بفضل وحدتهم، ويقظتهم السياسية، واحتكامهم لقدراتهم الخاصة، من دون مبالغات أو توهمات، ولنأمل بأن يتم الاستثمار في ذلك، لمواجهة مختلف التحديات الإسرائيلية، فما زالت القدس والأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال، وما زال الفلسطينيون في مواجهة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية.