نواف سلام نموذج سنّي ملفت، والمسيحيون لتوفير ضمانات وجودية
إذا كانت طبول الحرب ما زالت تقرع بصوت خافت نسبيًا، بعدما قرعت بعنف منذ السابع والثامن من تشرين الأول 2023، فإن أجراس أفول الهيمنة الواسعة للشيعية السياسية في لبنان تقرع بقوة، مؤذنة بمرحلة جديدة لن يكون لأي مكوّن فيها كلمة عليا على سواه من المكوّنات، بل إن المساعي تنشط في بعض المجالس والكواليس للوصول إلى واقع أكثر تطورًا للنظام اللبناني بما يكفل العيش المشترك السوي ويؤمن التوازن والشراكة الميثاقية ويوفر ضمانات بعدم سيطرة أي فئة أو طائفة على الفئات والطوائف الأخرى.
ولذلك، ما يعبّر عنه “حزب الله” على ألسنة بعض قياداته ونوابه وفي مقدمهم الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، معطوفًا على مواقف إيرانية مشابهة برفض قرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح بيدها، يبدو خارج الواقع ويخالف المسار المنطقي للمشهد المتغير في الشرق الأوسط بما فيه لبنان، علما أن عواصم القرار الدولي تتصرف منذ اليوم وكأن مسألة سلاح “حزب الله” ماضية إلى الحل عاجلًا أو آجلًا، لاسيما وأن الحل لا يستند إلى عملية تسليم السلاح للدولة اللبنانية فحسب، أو نقله إلى إيران أو سوى ذلك من المخارج، بل يستند إلى جملة عوامل ضاغطة على غرار تشديد الإجراءات المالية عمليًا وقانونيًا وأمنيًا بحق “حزب الله”، إن في ما خص “القرض الحسن”، أو مسارب التهريب والتهرب الجمركي والضريبي، أو حالات تبيض الأموال وتصنيع المخدرات والكبتاغون.
ولذلك، الرهان بحسب أوساط اقتصادية عليمة، هو على تعب البيئة الحاضنة لـ “الحزب”، وإدراكها منذ اليوم عجزه عن توفير ما كان يوفره من دعم مادي، بدليل الاعتماد أكثر لدى آلاف العائلات في الشأن الصحي على وزارة الصحة أو الضمان الاجتماعي أو اللجوء إلى شركات التأمين التي تقدم عروضًا مقبولة، بعدما كان الهم الصحي بعيدًا عن بيئة “الحزب” وكانت الأموال متوافرة من دون حاجة إلى صندوق أو مؤسسة ضامنة.
على أن مسألة ظهور تململ أوسع تحتاج إلى مزيد من الوقت، وبخاصة في ظل اقتناع متصاعد بعجز “الحزب” من جهة عن إعادة إعمار البلدات والمنازل المدمرة، في موازاة الشروط القاسية التي تطرحها الدول الأجنبية والعربية للمساهمة في إعادة الإعمار. ولذلك، فإن على “حزب الله”، بحسب الأوساط تفسها، البحث عن التأقلم مع الواقع الجديد، والبدء بتقبل الأمر الواقع لجهة التطبيع الداخلي أمنيًا وسياسيًا كما ماليًا واقتصاديًا.
على خط آخر، تنوّه مراجع روحية سنية بالأداء الجريء والحكيم في الوقت عينه لرئيس الحكومة نواف سلام الذي يتعاطى مع “حزب الله” وسلاحه من دون عقد، وفي الوقت عينه من دون رهان على دعم خليجي أو سوري من النظام الجديد. فالرئيس سلام آت من خارج النادي التقليدي لرؤساء الحكومات، وإن انتمى إلى عائلة بيروتية عريقة في السياسة. وهو تاليًا لا يتصرف على قاعدة حسابات طائفية ومذهبية، بل على قاعدة التركيز على إنهاض الدولة ومؤسساتها وتحرير الانتظام العام من العقبات المتراكمة والمتوارثة، وهو بذلك يلاقي بشكل غير مباشر التوجه السني العام بالرهان على الدولة أولًا.
على أن المراجع نفسها تلفت إلى أن رئيس الحكومة بتعاونه مع رئيس الجمهورية وتفهمه هوامش موقع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لا يمارس دوره وصلاحياته من موقع فئوي، ولا يبحث عن ثأر أو انتقام أو استعادة حقوق مهدورة. ومن المهم التأكيد أن علاقاته بالمملكة العربية السعودية تحسنت بشكل ملحوظ بعد مرحلة أولى من الحذر، كما أن علاقته بمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان جيدة، وإن كان ثمة نوع من التحفظ الهادئ على تجنب الرئيس سلام الالتزام ببعض الأعراف التقليدية على غرار مرافقة المفتي إلى الصلاة صبيحة الأعياد الكبرى، ولو أنه يزور المفتي في حينه من دون الذهاب إلى الصلاة. على أن المراجع نفسها لا تسمح لنفسها بالتشكيك بسنّية الرئيس سلام الذي ربما يفضل الصلاة مباشرة لربه وهذا شأنه مع ربه.
وما يعزز قوة الرئيس سلام على مستوى القرار السيادي، هو أنه لا يبحث عن التحول مرجعًا سنيًا بعد رئاسة الحكومة، كما لا يريد إنشاء حزب أو تيار أو يسعى إلى حسابات انتخابية، بل إنه يُسِر إلى مجالسيه أنه غير متمسك بالسلطة وأن أي محاولة لإحراجه غير مفيدة، مع العلم أن أي رهان على إخراجه من السراي الحكومي يعود له وحده أن يقرر في شأنه. وبناء عليه، فإن الرصيد الذي راكمه لن يوظفه على الصعيد السني النافر، علمًا انه نجح في تقديم نموذج ناجح لرئيس حكومة يعرف ما يريد، وهو يصب حتمًا في تصحيح المسار المرتبط بالزعامة السنية على قاعدة أن السنة أقوياء بقدر التزامهم الشرعية والدولة، وتاليًا إن البحث عن تركيب زعامات جديدة لا ينبغي أن يشكل هاجسًا كبيرًا.
أما في ما خص المشهد المسيحي، فالهم الأساسي هو توفير ضمانات تقي المسيحيين تداعيات الرياح الموسمية التي تهب على لبنان دوريًا والتي طبعت تاريخ لبنان الكبير بالاضطراب والعلاقات اللبنانية الداخلية بالصراعات والنزاعات ما انعكس بخاصة على المسيحيين بين إحباط وهجرة وانكفاء ديموغرافي مرتبط بالقلق على المستقبل، وهذا ما يدفع قيادات سياسية مسيحية أساسية إلى الدعوة لمقاربة الواقع المسيحي بقراءة متجددة تكرس الطابع التعددي للبنان الواحد بمعزل عن الواقع العددي.