IMLebanon

قتل السياسة.. والسياسي

ـــ ١ ـــ

كيف تكون لاعباً صلباً في زمن تنصهر فيه المجتمعات والدول….؟

اللاعبون الذين تحكّموا في اللعب طوال العقود التالية لسايكس بيكو، يريدون الاستمرار بالقواعد نفسها وحسب قوانين الجاذبية ذاتها.

الثورات تجمّدت في «ربيعها» بعد أن تحالف اللاعبون القدامى، في الداخل والإقليم (لعب الخليج دوره الباهر في حصار موديل التغيّر الآتي من بلاد الثورات..).

استردّ اللاعب القديم بعد السنوات الأربع مكانه، استرداد الساحر المحتكر للأدوات، والمروّض وحشاً رابضاً اسمه (الجهاز البيروقراطي)، لكنه وكما تقول التجربة الكاملة في مصر، لم يسترد الأرض التي يلعب عليها كاملة، فقد تغيّرت خصائصها، وأضيف إليها عناصر تكرّس غربته أو افتراقه عن «الزمن..»، ذلك الافتراق الذي يحلّه بمقولات تحذيرية من مصير سوريا وليبيا واليمن.

بعد أربع سنوات خفت في سنتها الأخيرة الطلب على الحرية والعدالة مقابل الطلب على الاستقرار، بعد أن اهتزّت الأرض بالخروج الكبير في يناير وما تلاه، لكن هذا الخفوت لم يكن انسحاباً كلياً للملايين من مسرح السياسة.

وبدت الخطة في العودة إلى «الدولة التي يخدمها سكانها» لا «الدولة التي تخدم سكانها» والفارق كبير، لكنها عودة صعبة كفيلة باستحقاقات ومشاريع وخطط، لم يكن هناك حلّ لها إلا بالإمعان في اقتراب المارشال السيسي من حلفه الخليجي (السعودية والإمارات)..

هذا الاقتراب لم يكن تنسيقياً، لكنه لقاء مصالح تُعتمد فيه خطة المارشال للعبور من الأزمات على الدعم السياسي والمالي من الخليج، مقابل بناء سد عالٍ من «الدولة…» في وجه «الثورة».

ـــ 2 ـــ

وهذا ما يجعل خروج جمال وعلاء مبارك عشية الذكرى الرابعة للثورة رسالة رمزية عن «موت الثورة».

الرسالة أعدّت، كما تفسّر أوساط سياسية في مطابخ خليجية، بإصرار على السير إلى النهاية في «إلغاء مكوّن يناير ولو بحضور ديكوري … خافت» في إعادة تركيب النظام الذي ليس مباركياً بالأشخاص ولكن بالروح والمفاهيم الرافضة لاقتراب غريب عن المجموعة الضيّقة من السلطة.

وهذا ما يجعل خطة المارشال للإنقاذ تقوم على إعادة معجزة ضرب السياسة من دون سياسة، أو كما يُقال الفوز بالمباراة من دون لعب، وهنا يعني تكوين طبقة سياسية، أو القبول بالديكورات الديموقراطية كواجهة ومجال حيوي لإعادة ترتيب الفراغ السياسي، حسب الضرورة والسيطرة.

ولكي تمرّ المعجزة لا بدّ من علامات، أهمّها طبعاً الخروج من المأزق المالي وفي هذا لا يمكن الاعتماد فقط على الحليف الخليجي، ولكن اتخاذه عراباً للتواصل من جديد مع العالم.

ولهذا تبدو الأهمية القصوى لمنتدى المستثمرين (المانحين) في آذار المقبل، والذي ستكون فيه المعركة الانتخابية خلفية ملائمة بالنسبة لتغيير الموقف الأميركي، ومن تستطيع واشنطن التأثير فيه، بينما الجانب الأوروبي يتشدّد في قوائم تتعلق بإجراءات على مستوى الحريات وحقوق الإنسان وتراخي القبضة الأمنية.

وهنا يعود دور الخليج إلى التضخم وخاصة السعودية صاحبة الدور المحوري، لضغط اختفاء الملك عبدالله من الساحة في اتجاه آخر، خاصة بعد إزاحة التويجري رئيس الديوان، والذي كان سنداً لسياسات المارشال وداعماً أساسياً لطريقته في الصراع ضد الإخوان المسلمين.

التغيير سيؤثر، في الأغلب، على طريقة الصراع، لا الصراع نفسه، بين المارشال والجماعة، ليتخذ خيار المفاوضات مساحة أوسع ممّا نالها منذ رعاية الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز (عندما كان ما زال ولياً للعهد) لمفاوضات بين شخصيات بعيدة عن المسؤولية لكنها قريبة من القلب الصلب للمجموعة التي أدارت البلاد بعد عزل مرسي. المفاوضات الأولى تمت في اسطنبول على أرضية وصلت في جولاتها الأخيرة قبل شهور قليلة إلى «اقتراح بالعودة إلى مربع مبارك، حيث كانت الجماعة بين الحظر والعمل وتحت عين الأجهزة المعنية». الاقتراح رفضته الجماعة، وحسب الفاهمين بتضاريسها الداخلية، خوفاً من الشباب الذي خرج عن السيطرة بعد فشل قيادات الإرشاد في إدارة وجود الجماعة في الحكم أو بعد طردها من الحياة السياسية تماماً.

ـــ 3 ـــ

وإذا تخيّلنا أن هناك «خلية» تدير الأزمة، سنرى أنها تعاني أضعاف ما تعانيه «قوى التغيير» على هشاشتها ونزوعها الطوباوي، وغربتها عن تقلّبات المجتمع من الخروج في لحظة صوفية طلباً للحرية والعدالة والكرامة، ثم الاعتذار والنكوص والتوبة عن الكفر بدين الدولة…

الخلية تعاني لأنه ليس لديها شيء. ليست قادرة إلا على تنفيذ خطة تمويت بطيئة للسياسة، باعتمادها على شعبية المارشال السيسي وعلى السلاح الحاسم للمؤسسة العسكرية.. (والرئيس السيسي قال في اجتماع مع الأحزاب: هل تتصوّرون أنني رئيس أو أن عندي سلطة؟ أنا مُستدعَى من الشعب..).

هذه العودة إلى ميتافيزيقا الحكم الخالد، مختصر المصلحة الوطنية، طارد كل المخالفين أو المعارضين أو الذين لا يقبلون دور الكورس أو الديكور، سيتحوّل بالتدريج إلى التركيبة نفسها التي حكم بها مبارك.

والاختلاف هنا أنه، بالغريزة، تشعر هذه الخلية أنّها تبني نظامها في مناخ متغيّر، وظروف معقدة ضاغطة، ولهذا تتسارع الوتيرة وتتّجه الخطوات نحو العناد والعصابية..

وهكذا تطوّرت فجأة خطة تمويت السياسة، إلى قتل السياسيين بإطلاق الرصاصات على شيماء الصباغ، المشاركة في تجمّع سلمي يحمل الورود… ماكينة القتل أصابها جنون لا يماثله إلا الجنون الجهادي الذي نشر فيديو خطف ضابط شرطة وقتله في سيناء، ويتزامن هذا مع ظهور دعاوى تحريض (وهمية أو مصنوعة في أجهزة أمنية أو بها جزء حقيقي) فإنها تشير إلى ما يفعله موت السياسة… وموت السياسي… وإصرار اللاعب على تجاهل أن الأرض التي يلعب عليها ما زالت سائلة.