في كلمته من قصر بعبدا، قدّم البابا لاوون الرابع عشر قراءة عميقة لهوية لبنان وأزمته، لكن ما لم يُقل بشكل مباشر هو أن هذا البلد فقد دولته يوم خرج السلاح من يد مؤسساته الشرعية عام 1969. فكل ما أشار إليه البابا عن الصمود، والرجاء، والمصالحة، وهجرة الشباب، يلتقي في نقطة واحدة: الدولة لم تعد دولة منذ اللحظة التي شُرّع فيها وجود قوة مسلّحة خارج سلطتها، ومنذ أن تحوّل قرار السلم والحرب إلى ورقة بيد جهات غير شرعية. لبنان الذي وصفه البابا بأنه “ورشة سلام دائمة” لم يُتح له يومًا أن يعيش هذا السلام، لأن السلام يفترض سيادة، والسيادة تفترض انفراد الدولة بالسلاح، وهو ما لم يتحقق في لبنان منذ اتفاق القاهرة.
فمنذ ذلك اليوم بدأت مسيرة السقوط: أولًا مع سلاح الفصائل الفلسطينية الذي جرّ البلد إلى صدامات متتالية، حرب، اجتياحات، وانهيار شبه كامل للمؤسسات. ثم جاء السلاح السوري الذي صادَر الدولة تحت عنوان “حفظ الأمن” وأبقى لبنان دولة شكلية تعمل ضمن منظومة وصاية كاملة. وبعد 1990، بدلاً من أن تستعيد الدولة سيادتها، وبدل أن يكون الطائف مدخلًا لإعادة بناء مؤسسات موحدة، استقرّ سلاح “حزب الله” كامتداد لما بدأ عام 1969: ازدواجية السلاح، وتعطيل مؤسسات الدولة، وتحويل لبنان إلى مساحة صراع إقليمي لا دولة ذات قرار مستقل.
عندما يقول البابا إن “اللبنانيين شعب لا يستسلم ويولد من جديد”، فهو يصف شعبًا، لا دولة. فالصمود الذي يتحدث عنه هو صمود الناس، لا صمود المؤسسات. اللبنانيون نهضوا من الحروب ومن الانهيارات ومن الأزمات الاقتصادية، لكن الدولة لم تنهض لأن السلاح غير الشرعي لم يسمح لها أن تنهض، ولأن القرار السيادي بقي مُصادَرًا. كل محاولة بناء مؤسسات، كل محاولة إصلاح، كل مشروع دولة مدنية أو شفافة أو خاضعة للمحاسبة، كان يُفرغ من مضمونه عند أول اصطدام مع واقع أن الدولة ليست صاحبة القوة الفعلية.
حتى “لغة الرجاء” التي تحدث عنها البابا، والتي كانت ميزة اللبنانيين عبر التاريخ، تتراجع اليوم أمام ثقافة الترهيب. فكيف يمكن للمواطن أن يتمسّك بالرجاء بينما القرار الأمني والعسكري والسياسي خارج مؤسسات الدولة؟ وكيف يمكن للبلد أن ينهض بينما يعيش منطق مناطق محررة، ومربعات أمنية، وقرارات استراتيجية مرتبطة بمحاور خارجية؟ الرجاء في السياسة ليس مشاعر بل بنية: بنية مؤسسات، بنية دولة، بنية سيادة. ومع غياب السلاح الشرعي الحصري، تختفي هذه البنية من أساسها.
وفي حديثه عن “شفاء الذاكرة”، يذكر البابا حقيقة يعرفها كل لبناني: الجراح التي لا تُعالج تعود فتفرض نفسها. لكن الجرح اللبناني الأكبر ليس فقط حرب 1975، بل استمرار أدوات الحرب نفسها حتى اليوم. المصالحة الوطنية في لبنان بقيت شعارًا لأن منطق الحرب لم ينتهِ. كيف يمكن معالجة الذاكرة بينما النظام الأمني الموازي مستمر؟ وكيف يمكن بناء ثقة وطنية بينما السلاح يبقى فوق الدستور والقانون؟ المصالحة تحتاج إلى دولة، والدولة تحتاج إلى سيادة، والسيادة تحتاج إلى أن تكون القوة بيد مؤسساتها لا خارجها.
حتى الهجرة التي تناولها البابا ليست ظاهرة اجتماعية فقط، بل نتيجة سياسية مباشرة لفقدان الدولة. الشباب لا يغادرون فقط بسبب الانهيار المالي، بل لأنهم يعيشون في بلد يشعرون فيه أن القرار الوطني ليس ملكهم، وأن مستقبلهم رهينة قوى لا يحاسبها أحد. الإنسان يهاجر عندما يفقد الشعور بالأمان السياسي قبل الاقتصادي، وهذا ما يحدث اليوم في لبنان.
وفي نهاية الخطاب، يشيد البابا بقوة المجتمع المدني اللبناني، لكن قوة المجتمع المدني تبقى بلا أثر حقيقي عندما تكون الدولة ضعيفة. لا يمكن لمبادرات المجتمع المدني أن تعالج مشكلته الأساسية: السلاح خارج الشرعية. فالمجتمع المدني هو شريك الدولة، أما حين تصبح الدولة غائبة، يتحول المجتمع المدني إلى شاهد لا فاعل.
إن كل ما قاله البابا عن الرجاء والصمود والمصالحة يحمل معنى واحدًا: لا يمكن للبنان أن يولد من جديد طالما بقيت الدولة بلا سلاحها، والسلاح خارج مؤسساتها. منذ 1969 وحتى اليوم، كان السلاح غير الشرعي هو الثقب الذي تسربت منه الدولة، المؤسسة تلو الأخرى، والقطاع تلو الآخر. وإذا كان للبنان أن يكتب فصلاً جديدًا من تاريخه، فهذا الفصل يبدأ من مكان واحد: استعادة الدولة لدورها الطبيعي كمرجع وحيد للقوة، لأن كل إصلاح آخر سيبقى معلّقًا فوق فراغ.