انظروا في موقع الدولة في الإقليم، وفي الجوار الذي يحيط بها. انظروا في تكويناتها وفي تكوينات شعبها، بل في متانة اقتصادها أو هشاشته. انظروا في الدول التي تطمع بها، بل انظروا في عدد الحروب التي خوضت بها. انظروا في تاريخها القديم والحديث، وفي درجة الإنتماء لها، بل في المستويات العلمية والأدبية التي كوّنتها. ثم آنئذ نذهب لتقييمها وتقييم معاناتها.
بلغ لبنان اليوم أعلى مستوى من المعاناة، بين جميع دول العالم. فهو محسد في موقعه، ولذلك بات مطمع الدول الكبرى والدول المجاورة، والدول التي لها فيه إمتدادات روحية ودينية. ولهذا سجل لبنان أعلى نسبة من الحروب نتيجة أطماع الأمبراطوريات بأرضه. فما نشأت أمبراطورية في التاريخ، إلّا وحاولت أن تصل بنارها إليه، تريد إحتلاله وضمّه إلى امبراطوريتها، دون أن تبالي بحجمه، ودون أن تبالي بهمّه، ودون أن تبالي بمكونات شعبه.
تحمّل هذا البلد الصغير، جميع أثقال الدول الكبرى. كان موطنا للجوء والهجرة إليه، من سائر الأقليات التي كانت تعاني الضغوط. ولهذا سرعان ما صار بلد الأقليات، مما شكّل له فسيفساء عجيبة من الشعوب والطوائف والأديان. فما كان يردّ راغبا، إذا رغب السكن والتوطن فيه مؤقتا أو إلى الأبد.
كان لبنان ولا زال بلدا ضعيف الموارد. فلا هو صناعي قوي الصناعة، ولا هو زراعي عظيم الزراعة، وليس للتكنولوجيا فيه، نصيب مهم، إلّا بما يسمح له أن يكون له فضلة التكنولوجيا العصرية المزدهرة.
وكان موقعه بين الشرق والغرب، لمما يجعله مطمعهم جميعا. فما من دولة قوية، إلّا وحلمت بالوصول إليه، وإتخاذه موطئ قدم للوصول إلى الدول القريبة الأخرى.
لبنان بلد ضعيف الموارد، يعيش على موارد غيره من الدول، وذلك عن طريق طلب المساعدات، أو عن طريق الهجرة، ولهذا نراه دائم التكوين، بسبب ما يتاح له من الدول الأخرى.
سجل لبنان أعلى نسبة من الحروب، في دائرة المنطقة والإقليم والعالم. فما تقع حرب في أية دولة في العالم، إلّا ويسارع لبنان ليشارك فيها بقسم من شعبه، ذلك لأنه بلد التعددية الدينية والمذهبية والسياسية، بلد الإقطاع والثورة، بيده الشعارات كلها، وشعلتها كذلك، لأنه لا بد أن يكون فيه من ينحاز لها.
سقطت الدولة في لبنان، منذ تخلّت عن سيادتها للمجموعات المسلحة، قتلتهم بنصفها، وناورت عليهم بنصفها، فكان ذلك أول إنشقاق قاتل لها، فما تمكّنت من بناء إدارتها، ولا تمكّنت من بناء قوتها. كان من الدولة، من يناور على الدولة، ويدخل في صراع معها، تارة بإسم الثورة على الإقطاع، وتارة بإسم حماية المكتسبات، وطورا بإسم حماية الحرية والديمقراطية، وكان كل ذلك برّاء منها.
شهدت ثورة العشائر عليها، وشهدت كذلك ثورة الطوائف فيها، وكانت جاذبة لجميع الثورات في الإقليم، بإسم القومية وبإسم الوطنية وبإسم العدالة الإجتماعية وبإسم تحرير الأوطان العربية من جميع أنواع الاحتلالات، من الجزائر حتى السودان والصومال وحتى بلاد العراق والشام وحوران وفلسطين، وحتى الإنتصار لبوليفيا وأرمينيا وفيتنام.
تعاني الدولة اللبنانية منذ الأزل، من عقدة الثورات الشعبية المساندة والمستندة ألى الخارج. ولهذا باتت معاناة الدولة جزءا أساسيا من قسوة الخارج عليها، ومن قسوة الداخل أيضا. ترى شعبها يشرى ويباع في سوق الكساد وفي سوق الفساد وفي سوق النخاسة. يهبّ لحمل السلاح، ثم سرعان ما يقتل ويغفر ويغرر به. هكذا كان وهكذا هو الآن. فهل عجبتم من معاناة الدولة؟!
لا يتعلم اللبنانيون من دروس الماضي، ولا يستيقظهم الماضي الأليم على السلوك في دروب الإصلاح والتمسّك بالدولة، بل تراهم يغرّر بهم، على محاور الدول الكبرى، لأنهم لا يتورعون عن الشغل بـ«البقشيش»، لمصلحة الأجراء والمستأجرين، وينسون أمور بلادهم والهمّ الذي ينام أهلهم عليه، من فقدان الطعام، ومن فقدان الأمان، ومن هدم البنيان على رؤوسهم ورؤوس أهلهم، بسبب بيع وشراء النفوس والنفوذ، في سوق المراهنات وفي سوق النخاسة.
اليوم تلوح في الأفق تباشير النهوض بالشعب والدولة، نخسر القليل ونربح الكثير، إذا ما إنخرطنا جميعا في مشروع إستعادة الدولة من خاطفيها: محليا وخارجيا، ومن ثم الإنصراف لبنائها بكل جديّة. فصياغة الدولة من جديد بعد نصف قرن من إختطافها ليس بالأمر السهل. فلتكن الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، وليتعظ اللبنانيون جميعا مما جرى لنا خلال السنوات الماضية، فمعاناة الدولة ليست بنت ساعتها، وحان الوقت أن نستعيد دولتنا، تحت عنوان واحد: الدولة كرامة سلاحها، وكرامة شعبها!