IMLebanon

غزّة تُسقط النّفاق الأوروبي بالضربة القاضية

 

لا تُقرأ مواقف قادة دول أوروبا الغربية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، من على أرض فلسطين المحتلّة خلال الأسبوعين الأخيرين، إلّا إعلان عداء للفلسطينيين، والعالميْن العربي والإسلامي، ومليارات من سكان الأرض.

 

منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتسيُّد النموذج الأميركي على كل نواحي الحياة الإنسانية، صدعت دول أوروبا الغربية، بإداراتها وأحزابها ونُخَبِها وإعلامها، دول الجنوب العالمي بالعولمة والقيم الواحدة وسيادة القانون وحق الاختلاف والديموقراطية.

وإذا كانت بعض محطّات الصراعات في العقود الثلاثة الأخيرة، من العدوان على يوغوسلافيا، إلى العدوان الأول على العراق ثم احتلاله والعدوان على ليبيا والحرب على سوريا، قد تركت شيئاً من الالتباس حيال مواقف الدول الأوروبية العميقة، فإن محطّة غزّة، وجرائم الحرب التي تتعرّض لها فلسطين منذ السابع من أكتوبر، على الأقلّ، أسقطت النّفاق الأوروبي، بالضربة القاضية.

 

فحتى التباين بين الدول الأوروبية، الذي ساد في حربَي العراق، الأولى والثانية، مثلاً، والتمايز النسبي مع الموقف الأميركي، وعصر الملاحقات الأوروبية للقيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بتهم جرائم الحرب، انطوى عشيّة 7 أكتوبر أمام امتحان المحرقة المستمرة بحقّ غزّة، والعدوان الوحشي في الضّفة الغربية.

 

فجأةً، أُهملت من حسابات اليمين واليسار الأوروبييْن، المتماهييْن في خيارات السياسات الخارجية، كل أدوات الإقناع بالأدوار الأوروبية الجديدة، لصالح الانحياز الكامل إلى استمرار المجزرة الإسرائيلية في غزّة، فانتقل العالم من عصر حساب البصمة الكربونية، إلى قواعد القرن الثامن عشر في رحلة عبر الزمن نحو أصول النموذج الاستعماري الأوروبي.

 

بعد هذا التطرّف الأوروبي، لم يعد ممكناً اعتبار المواقف الحالية، مواقف متفرّقة أو نابعة من ضغط اللحظة السياسيّة، أو بفعل التأثير الأميركي واللوبيات اليهودية، إذ إن الشعور الأوروبي العميق بتهديد إسرائيل، بوصفها أحد أبرز إنجازات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية في الشرق، دفع الدول الأوروبية الغربية إلى الاستنفار، دفاعاً عمّا تعتبره جزءاً من أمنها القومي، وإحباطاً لأي محاولات طموحة لدى شعوب المنطقة والجنوب بشكلٍ عام.

طبعاً، لا يمكن إهمال التأثير السياسي للحرب الروسية – الأوكرانية، على الموقف والدعم الأوروبييْن الغربييْن لإسرائيل في المرحلة الأخيرة. فأوروبا، منذ صبيحة 25 شباط 2022، في حالة حرب معلنة ضد موسكو، تتقدّم فيها على الأميركيين، بوصف روسيا تهديداً وجوديّاً عليها. وأوروبا الغربية، القلقة أصلاً من تنامي تعاطف العالم الإسلامي مع روسيا، وجدت أخيراً أن إسرائيل هي الشريك الدفاعي الثاني بعد الولايات المتّحدة. وباتت إسرائيل المصدر الأساس للكثير من موارد التسليح الأوروبي (ما عدا الطائرات المقاتلة)، ومعمل التكنولوجيا والأسلحة الذي يزوّد الجيوش الأوروبية بما ينقصها من نماذج الصواريخ المضادة للدروع والراجمات والمدفعيّة وأجهزة الرصد والتشويش، فضلاً عن الدفاعات الجويّة التي تسابق أوروبا الوقت للحصول عليها مع تقدّم التهديد الصاروخي الروسي إلى العمق الأوروبي.

كما لا يمكن غضّ الطرف، عن التحوّلات التي كانت قد بدأت قبل سنوات تجاه ملفّات الهجرة، وانفلشت في العام الحالي، مع انتقال أوروبا إلى خطاب اليمين التقليدي والتغيير في النظرة إلى الوافدين. فحتى الأحزاب التي تبنّت في ما مضى سياسة استقبال المهاجرين ودمجهم في المجتمعات الأوروبية لتلبية الحاجات الاقتصادية والتحديّات الديموغرافية، كالحزب الديموقراطي المسيحي في ألمانيا مثلاً، الذي يجد نفسه اليوم في خندق واحد مع حزب البديل، اليميني، في حربه المعلنة على سياسات الهجرة.

 

ولعلّ بعض القوى الأوروبية الغربية، وجدت في «طوفان الأقصى» فرصةً لا تُعوّض لتعميم سياساتها تجاه الوافدين، وتقوية ثقافة الخوف، فيما وجدت قوىً أخرى، مناسبةً لإيقاظ عصبيّات دينية، كان العالم قد توهّم بأنها اندثرت في أوروبا.

وإن كان المستشار الألماني أولف شولتز، مثل كلّ ألماني، وجد الدّفاع عن إسرائيل فرصةً للتكفير عن ذنبٍ لم يرتكبه الفلسطينيون، فإن إيمانويل ماكرون أكثر من يحتاج إلى الاستثمار في الحرب الدينية، بعد فشل خططه الاقتصادية والتقهقر الفرنسي في مناطق النفوذ التاريخية. وبينما فشلت جورجيا ميلوني في الحفاظ على كلّ شعارات ما قبل تولّي رئاسة الحكومة الإيطالية، تُطرح الأسئلة عن ريشي سوناك، وعمّا إذا كان يخلط بين أصوله الهندوسية وموقعه في رئاسة الحكومة البريطانية، ليضيف بعض البهارات الزائدة على الموقف البريطاني تجاه إسرائيل.

لقد أسّس الموقف الأوروبي من العدوان على غزّة، للكثير من التحوّلات على العلاقة بين العالميْن العربي والإسلامي وأوروبا الغربية ستترك أثرها لعقود. لا بدّ أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسعد السعداء بهذه النتائج، ومعه الرئيس الصيني شي جين بينغ، بينما يستعدّ الرئيس التركي رجب إردوغان لتلقّف نداء شعارات الحرب الدينية، لتعزيز دوره في العالم الإسلامي. أمّا أوروبا، من الآن إلى المذبحة المقبلة، ففقدت قدرتها على الكذب.