IMLebanon

ممارسات وتدخلات و«لعنة لا بد منها»

 

كان أحمد الجلبي سياسياً بارعاً انقسمت الآراء حول مسيرته الشائكة. لكنه كان شجاعاً لا يتردد في تسمية الأشياء بأسمائها. ثم إنه لم يكن صديق الأميركيين وحدهم في تلك الأيام. حين باشر الجيش الأميركي اقتلاع نظام صدام حسين، دخل الجلبي الأراضي العراقية سيراً على الأقدام آتياً من إيران بعد وداعٍ رسمي هناك تخلله لقاء مع وزير الخارجية يومها كمال خرازي وقائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني.

بعد سنوات روى لي الجلبي ذكرياته. أتذكر الآن جملة ذات دلالات. قال إن أميركا لم تكن راغبة أبداً في التدخل في العراق وإطاحة نظام صدام. «نحن قمنا بعمل طويل ودؤوب في الكونغرس بهدف استدراج الأميركيين إلى التدخل، محاولين إقناعهم أن بقاء نظام البعث يشكل خطراً على مصالحهم». واعتبر أن حدثين سهلا قرار التدخل؛ الأول غزو العراق للكويت والثاني هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وقال صراحة إنه لولا التدخل الأميركي لعاش العراقيون عقوداً إضافية في ظل صدام أو أحد نجليه.

وقال الجلبي إن الأميركيين لا يريدون إراقة دماء أبنائهم ومليارات الدولارات في الشرق الأوسط ما دامت مصالحهم مؤمّنة. لكن هذه المنطقة التي تنام على ثروة كبرى من الطاقة، وتشكل نقطة لقاء ثلاث قارات تستدعي التدخلات الخارجية، لأنها تنجب أحياناً زعماء مغامرين لا يعرفون العالم وموازين القوى فيه أو أفكاراً تشبه القنابل الموقوتة والجوالة. وأعرب عن اعتقاده أن المسؤولين الإيرانيين أذكى من خوض حرب مباشرة مع أميركا، لأنها قادرة على إعادة إيران عقوداً إلى الوراء إن لم يكن أكثر.

أوضح الجلبي خلال سهرة مديدة في بغداد أن الغرب لا يستطيع التسامح في ملفين؛ الأول تهديد استقرار منابع الطاقة وممراتها، والثاني قيام أي تهديد وجودي لإسرائيل. تهديدات من هذا النوع تستدعي القوات الغربية إلى المنطقة. ولاحظ أن العلاقات الأميركية – الإيرانية لن تستقر قبل أن تبرد حماسة جيل إيراني يعتبر روح المواجهة مع أميركا ضماناً لاستمرار تماسك الثورة الإيرانية، لافتاً إلى أن أحمدي نجاد وقاسم سليماني ينتميان إلى هذا الجيل الذي يعتبر الحضور الأميركي في المنطقة عائقاً أمام برنامج الثورة وخطراً عليها.

لا شك أن مؤسسات الغرب السياسية والأمنية والعسكرية تضم أصواتاً من قماشة الصقور تؤيد الهيمنة والإملاءات وفرض النماذج وقواعد السلوك. لكن الغرب يعيش في ظل مؤسسات تناقش وتدرس وفي ظل برلمانات تراقب وتحاسب. وببساطة يمكن طرح السؤال: هل كان باستطاعة الغرب إرسال مئات الآلاف من جنوده لتأديب جيش صدام لو لم يكن يحتل دولة الكويت؟ أو لم يشكل غزو الكويت نوعاً من استدعاء التدخل لأن خيار القبول بالأمر الواقع العراقي في الكويت لم يكن متوقعاً أو وارداً؟

محطة أخرى. خرجت القوات الأميركية من العراق بقدر من الخيبة. تحقق هدف إسقاط صدام لكن الهدف الأهم وهو قيام عراق ديمقراطي مستقر موالٍ للغرب ومنشغل بالبحث عن الازدهار لم يتحقق. ثم إن إقامة الجيش الأميركي في العراق أدَّت إلى شيوع التطرف وولادة مجموعات جهادية، وسهّلت لإيران القريبة التسرب إلى داخل النسيج العراقي ومواقع القرار فيه. لهذا ساد الاعتقاد أن أميركا ستبتعد عن المنطقة والتدخلات العسكرية فيها. لكن إطلالة زعيم «داعش» من الموصل وتمدد التنظيم على أجزاء واسعة من العراق وسوريا وممارساته الوحشية داخل «دولته» وخارجها لم تترك لأميركا غير خيار التدخل لمنع التنظيم من التمدد وامتلاك قاعدة مستقرة يعد فيها هجمات ذئابه المنفردة على امتداد العالم.

لم يكن الجلبي يعتقد أن الغرب جمعية خيرية لا في الماضي ولا في الحاضر. ولم يتوهم أن الغرب سيضحي بأبنائه من أجل إجراء جراحات صعبة لزراعة الديمقراطية في منطقتنا. لكنه كان يعتقد أن منطقة الشرق الأوسط ولّادة للأخطار وأسيرة نزاعات قديمة وكراهيات مزمنة، لذا يجد العالم نفسه أمام خيار محاصرة هذه الأخطار أو التدخل على أمل اقتلاعها. وكان يعطي مثلاً على ذلك هجمات «القاعدة» في نيويورك.

محطة لها علاقة مباشرة بالموقف الحالي. هل كان من السهل على دونالد ترمب الخروج من الاتفاق النووي مع إيران لو نجحت بعد إبرامه في كبح طموحاتها الصاروخية وشهياتها الإقليمية؟ وهل كان باستطاعة إدارة ترمب أن ترسل القطع البحرية إلى مياه الخليج لو لم تكرر إيران تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز، ولو لم يلجأ الحوثيون إلى تحرشات تصبُّ في النهاية في مشروع زعزعة استقرار المنابع والممرات؟

الحديث عن الشكوك المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة يجب ألا يحجب أبداً أن مشكلة إيران الأولى هي سياستها التي تقلق الدول المجاورة قبل الدول البعيدة. تقول إيران إنها تريد العيش بسلام مع جيرانها. ويقول وزير خارجيتها إنها تقترح عليهم معاهدات عدم اعتداء. من حق الجيران في ضوء الممارسات المتكررة أن تساورهم الشكوك في أن الغرض من هذه العروض هو تمكين إيران من تفادي مواجهة مع أميركا، وهضم ما نجحت في تحقيقه عبر الجيوش الصغيرة الجوّالة.

لا تبدأ المشكلة في الشرق الأوسط من التدخلات الخارجية. تبدأ من الممارسات التي تستدعي هذه التدخلات وتسهلها. يبدأ الحل بخيار العودة إلى الخرائط. والالتزام بالقانون الدولي والأعراف في التخاطب بين الدول. والامتناع عن انتهاك الخرائط بالصواريخ أو الطائرات المسيّرة. ليس لأي دولة في المنطقة الحق في فرض نموذجها وسياساتها على الآخرين. سياسة التسلل إلى داخل خرائط الآخرين وتهديد الاستقرار والمصالح هي المقدمة التي تستجر التدخلات الكبرى.

الشرق الأوسط مشكلة يبدأ حلها في الشرق الأوسط. بتغيير السياسات واعتماد خيار التعايش وقبول الاختلافات واحترام المصالح. من دون ذلك ستظل هذه المنطقة مشكلة لنفسها وللعالم. وكما يقول دبلوماسي تمرّس في عواصم المنطقة: «ابتعاد الجيوش عن هذه المنطقة أفضل من الانخراط فيها. لكن الشرق الأوسط يعني اقتصاد العالم واستقراره. وهو أحياناً لعنة لا بدَّ منها».