لبنان حائر في أمره، من حيث توحي السلطة أنها واثقة من نفسها. ومحيِّر للدول التي تعمل على مساعدته بمقدار ما تؤكد تلك القوى جديتها في فتح الفرص أمامه على طريق واضح يؤدي إلى نهاية الحرب وبدء التعافي وبناء مشروع الدولة. والعقدة المستعصية هي السلاح خارج الشرعية الذي يسد الطريق على الجهود المبذولة داخليًا وخارجيًا لخروج البلد من هوة الأزمات إلى إصلاح الحاضر وصنع المستقبل. والسؤال هو: هل كان الذين أخذوا في مجلس الوزراء قرار سحب السلاح من “حزب الله” يعرفون أو لا يعرفون أن تنفيذه خارج الجنوب ليس واردًا بالقوة ولا متاحًا بالتفاهم؟ وهل يدرك أم لا يدرك “حزب الله” المصر على الاحتفاظ بالسلاح من دون رد على الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة بعد اتفاق “وقف الأعمال العدائية” وسط التهديدات الإسرائيلية والتحذيرات العربية والدولية من حرب أخطر من الحرب السابقة، ماذا بعد الحرب، وما هي الخيارات الصعبة المتروكة للبنان، ومن يستطيع أن يحمل أعباء الدمار الهائل والتضحيات الإنسانية الكبيرة؟
ليس من السهل فك التشابك بين خمسة خيوط. خيط الاحتلال والخروق الإسرائيلية اليومية لوقف الأعمال العدائية. خيط الرفض القاطع لدى “حزب الله” لتسليم السلاح إلى الجيش. خيط التمسك الرسمي بحصرية السلاح بيد الدولة. خيط الربط بين سحب السلاح وتمویل إعادة الإعمار وتدفق الاستثمارات. وخيط الحرب التي ينتظر نتنياهو الحصول على ضوء أخضر من الرئيس دونالد ترامب في لقاء أواخر الشهر الحالي لبدئها بوحشية تتجاوز توحش جيشه في حرب غزة و “حرب الإسناد” والـ 66 يومًا التي قضت على قيادة “الحزب” وكوادره والكثير من أسلحته ودمرت الجنوب والضاحية والبقاع وهجّرت أهلها.
ومن حق المواطنين الذين دمر العدو بيوتهم وبدّل طبيعة أرضهم أن يلحوا في المطالبة بإعادة الإعمار بالممكن في يد الدولة قبل انتظار الكلفة الضخمة من المانحين. لكن من واجبهم الحض على تقديم السلاح للجيش لكي تأتي الأموال اللازمة لإعادة الإعمار بدل رؤیته مدمرًا مع البلد على يد إسرائيل. فالمال ليس العائق الوحيد أمام إعادة الإعمار. وقد سمعنا القول بكل اللغات إنه لا أحد يضع دولارًا لإعادة الإعمار قبل التسليم بنهاية الحرب والتوقف عن التسلح من جديد والتخطيط لمعارك تقود إلى حرب تحت عنوان الدفاع عن لبنان وتحرير فلسطين.
والواقع أن لبنان في حاجة، قبل إعادة الإعمار ومعها، إلى أمرين يكملانها. الأول هو إزالة “الركام العسكري” لحرب الإسناد التي بادر إليها “حزب الله” غداة عملية “طوفان الأقصى” على يد “حماس”، ورد إسرائيل بحرب طاحنة في غزة ولبنان وصولاً إلى طهران. والثاني هو إعادة “الإعمار الاجتماعي” بعد الهزات التي ضربت النسيج الاجتماعي في البلد ودفعت الحساسيات والحزازات الطائفية والمذهبية إلى الحد الأقصى الخطير، ومساحة اللقاء الوطني المشترك إلى أضيق هامش. ألا يبدو مفصولاً عن الواقع من يدعو اليوم إلى دولة المواطنة المدنية؟ أليس أقل ما يقود إليه الإصرار المتشدد على ربط السلاح في يد تنظيم إيديولوجي مذهبي بحسابات مكون طائفي هو “تخصيب” التطرف لدى بقية الطوائف؟ وماذا يبقى من لبنان وله في مثل هذا الوضع؟
كان ماركس يصف جماعة العنف الدائم بأنهم “الحالمون بالمطلق”. ولا مهرب في لبنان وكل البلدان من كون السياسات والخطط والمواقف نسبية.