IMLebanon

تأملات في نماذج إصلاحية

         

عرف العالمان العربي والإسلامي حركات إصلاحية ظهرت على شكل طفرات فردية تركت أثراً لا يمكن إغفاله وإن لم يتمكن بعضها من الاستمرار إلا أنها تبقى في النهاية ومضات مضيئة يقف التاريخ أمامها باعتبارها نقاط تحول في مسيرة الأمم وحياة الشعوب، وقد اخترت اليوم أربعة نماذج لتوجهات إصلاحية في دول إسلامية أو عربية وقد كان معيار الاختيار لتلك الحركات أنها مثلت مسارات جديدة في حياة المنطقة، وتحضرني الآن تجربة التحول التركي على يد مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط دولة الخلافة في نهاية الربع الأول من القرن الماضي ثم النموذج اللافت لرؤية الحبيب بورقيبة في تونس حول منتصف القرن الماضي ثم نتجه شرقاً إلى ماليزيا حيث تجربة تحديث الدولة على يد مهاتير محمد الذي عاد إلى السلطة وهو في الثانية والتسعين من عمره، ثم نختتم تلك المحاولات الإصلاحية بما يقوم به الأمير محمد بن سلمان أخيراً في المملكة العربية السعودية، ونعرض بإيجاز للسمات الرئيسة لهذه الحركات الإصلاحية الأربع.

 

 

أتاتورك

 

قد يختلف الناس حوله فمنهم من يراه إصلاحياً عظيماً أخرج تركيا من غياهب حكم خلفاء بني عثمان بحيث أنهى ذلك الضابط التركي ابن إقليم سالونيك أسطورة الحكم المتراجع حيث كانت حركته نهاية لحياة «رجل أوروبا المريض» والذي كانت تعني به الدراسات المتصلة بـ»هضبة الأناضول» في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلا أن هناك تياراً آخر يرى أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن أتاتورك كان مدسوساً على العالم الإسلامي ليضرب دولة الخلافة الاخيرة ويخرج تركيا من دائرة الإسلام التقليدي ويدفع بها في أتون العلمانية بكل ما تحمله من معانٍ غامضة في الفكر السياسي المعاصر، وهو الذي استبدل بالحروف العربية حروفاً لاتينية في الأبجدية التركية وفرض أذان الصلوات باللغة التركية ورفع (الطربوش) من فوق رؤوس الأتراك، وسوف تظل أفكار أتاتورك محل جدل يرى فيها البعض أنها كانت نقلة نوعية كبرى للأمام ويرى فيها البعض الآخر أنها كانت حركة خبيثة لإضعاف العالم الإسلامي بل ويشطط فريق مدعياً أن أم مصطفى كمال أتاتورك كانت يهودية وهذا قول لا نميل إليه فلقد رأيت صورة لها في ضريح ابنها وقد جاء اسمها واضحاً كواحد من أسماء المسلمات، وغالباً ما تقترن بالحركات الإصلاحية شائعات مغرضة تصل إلى حد الأكاذيب، ذلك أن هناك من يرى فيها خروجاً عن المألوف والمضي في طريق مجهول، وقديماً قالوا إن المرء عدو ما يجهله، ومهما اختلفت نظرتنا تجاه أتاتورك وأفكاره، إلا أننا نراه إصلاحياً من منظور عصري اتجه إلى تحديث بلاده برغم تسليمنا بكل الأخطاء التي وقع فيها.

 

الحبيب بورقيبة

 

يمثل نموذج الحبيب بورقيبة تحولاً اجتماعياً خصوصاً فيما يتصل بميلاد المجتمع المدني في تونس وإنصاف المرأة والاتجاه نحو الرؤية العصرية في طقوس الحياة بدءاً من مسألة تعدد الزوجات والطلاق أمام القاضي وصولاً إلى إيمانه التدريجي في عملية التحول حتى أن (البورقيبية) تعني غالباً التدرج في نيل الحقوق وفقا لمبدأ «خذ وطالب»، ومازال جيلي يذكر زيارة بورقيبة لمصر عام 1965 ولقائه الرئيس جمال عبد الناصر وحصوله على الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة حتى غادر مصر ليلقي بقنبلة كبرى أثناء زيارته مدينة أريحا في الأرض الفلسطينية المحتلة، معلناً إمكان التدرج في الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية من خلال المفاوضات بين الطرفين، ولقد هاجمه عبدالناصر وقامت الصحافة المصرية بقيادة الكاتب الراحل الأستاذ هيكل بحملة عنيفة ضد بورقيبة واعتبروه سياسياً ذا وجهين، ولقد أثبتت الأيام فيما بعد سلامة نظرته وأهمية رؤيته.

مهاتير محمد

إنه رئيس وزراء ماليزيا الأسبق والحالي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ونقل بلاده من مستنقع التخلف إلى دولة عصرية حديثة تقف بين النمور الآسيوية معتمدة على اقتصاد متوازن وسياسة معتدلة أرسى دعائمهما ذلك الرجل الذي تتردد أقوال بأنه كان منتسباً لفكر الإخوان المسلمين في البداية حتى اكتشف أن آفة التخلف هي غياب التخطيط السليم والرؤية الواضحة فمضى في طريقه نحو تشكيل الملامح الأساسية لـماليزيا الحديثة بدءاً من المطار الرسمي للدولة باعتباره أول ما يراه الزائر لبلاده ثم مضى نحو إصلاح التعليم باعتباره المتحكم في بوابة المستقبل، وهو أيضاً الذي اتجه إلى التصنيع واهتم بتقديم تجربة وطنية ذاتية نجحت إلى حد كبير في تقليل الفجوة بين الصادرات والواردات وصنعت ماليزيا الحديثة كنموذج يحتذى به وتسعى الدول المختلفة والحكومات المتعددة إلى تقليده والنقل عنه، ولقد طاف مهاتير محمد في السنوات الأخيرة وأثناء فترة خروجه من الحكم وابتعاده عن السلطة بعواصم العالم المختلفة، خصوصاً في الدول الإسلامية والعربية وكانت محاضراته محط أنظار كما كانت زياراته مناسبة يحتشد فيها رجال الأعمال يستمعون ويناقشون وينقلون عن أفكاره حتى ذاع صيته وأصبح اسمه عملة صعبة في عوالم السياسة والاقتصاد بل والأدب والفن أيضاً.

 

الأمير محمد بن سلمان

هو الذي يقود أحدث عملية إصلاحية في المنطقة، وقد نجد بعض الحرج عندما نتكلم عنه بحكم منطق المعاصرة خصوصاً أن الرواية لم تتم فصولها، ومن حسن الطالع أن تأتي عروض الإصلاح من المملكة العربية السعودية منزل الوحي ومهبط الرسالة وقبلة المسلمين في كل مكان وبذلك «قطعت جهيزة قول كل خطيب»، وظهر الأمير الشاب محاولاً الإصلاح بدءاً من حقوق المرأة السعودية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصولاً إلى إحياء دور الفن الهادف في بلاده مروراً بأفكار اقتصادية تتصل بالصناعة والسياحة على نحو يضع المملكة في موقع مختلف تماماً، ولا أستطيع أن أزعم أن الأمير يلقى تأييداً مطلقاً، بل إن هناك من لا يتحمسون لما يفعله ويتمسكون بالماضي ولو كان بالياً ويدافعون عن الوضع القائم كراهية في كل جديد وتخوفاً من أن يؤدي الأمر إلى فقدان بعض السلطات الدينية والمالية لنفوذهما في المجتمع السعودي. هذه مقتطفات عاجلة من نماذج إصلاحية معاصرة ولكنها تظل تجارب رائدة في العالمين العربي والإسلامي، وقد تكون هناك تجارب إصلاحية أخرى ولكن ربما لم يكتب لها حظ الانتشار والذيوع أو أنها قمعت في مهدها، إننا نسعى إلى التنقيب في كل ما هو جديد لأن الركود والجمود اللذين سيطرا على دولنا يجب ألا يستمرا أيضاً فمنطق الحياة هو التجدد، وسنّة الكون هي التغيير ولكل عصر أفكاره ورموزه ولكل جيل رؤيته وقناعاته ولا داعي أبداً للوصاية على المستقبل بإرث الماضي وتكبيل حركة الشباب والوقوف أمام قطار التاريخ ونحن ندرك جيداً أن الأمر ليس سهلاً وأن انتقاد الحركات الإصلاحية هو أمر سهل ولكن العبرة بمضمون تلك الحركات وجوهرها وقدرتها على اختراق ستائر التخلف وطرد خفافيش الظلام ودعاة القول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، كما أن الفهم الصحيح لديننا والإدراك العميق لفلسفة الإسلام الذي يتقدم الجميع ويؤمن بقيمة الحياة ومكانة الفرد وحق المرأة في التعليم والعمل، إن هذا الدين الحنيف الذي ظلم كثيراً واختطفته جماعات إرهابية أحياناً أخرى قد أصبح من واجبنا أن نكشف الحجاب عن وجهه الحقيقي وإشراقته العصرية المضيئة، تلك هي رؤيتنا لمفهوم الإصلاح وقراءتنا لتجاربه المختلفة وإدراكنا للمستقبل على ضوء ما عرفناه في الماضي، وما نعانيه في الحاضر، وما نتطلع إليه في المستقبل.