IMLebanon

تداعيات المضاربات العقارية: أبراج سكنية فارغة

يعاني قطاع العقارات في لبنان من تراجع، سببه ـ على ما يقول تجار البناء ـ «وضع البلد التعيس أمنياً وسياسياً»، ويُضاف أخيراً «الوضع البيئي». يتفق الجميع على أن هناك اليوم أزمة «شراء وبيع»، لكن هل أسباب هذه الأزمة ناتجة من وضع البلد السيئ، أم من تداعيات الفورة العقارية التي بدأت عام 2008 وأنتجت خللاً بين نوعية العرض ونوعية الطلب؟

خمسة مشاريع سكنية ضخمة في مناطق فاخرة في بيروت توقفت خلال السنوات الأخيرة، وفق ما ذكرته شركة «رامكو» في إصدارها الفصلي. تختلف أسباب توقف هذه المشاريع، فبعضها أُوقف بسبب عدم توافر من يشتري الشقق الضخمة ذات الأسعار المرتفعة، وأحدها (THE LANDMARK) بسبب اكتشاف آثار في أثناء عملية الحفر، فيما واجه أحد المشاريع (BEB BEIRUT) مشاكل مع الدولة ومصرف لبنان.

مشروع BELLA CASA في منطقة العدلية المؤلف من ثلاثة أبراج، ويضم نحو 182 وحدة سكنية بسعر يبدأ بـ 2800 دولار للمتر المربع، أُطلق عام 2012 وسُحب من السوق منذ سنتين، قبل بدء العمل به. كان المشروع يقدّم مساحة 35 ألف متر مربع مخصصة للسكن، أي تبلغ مساحة الوحدة السكنية تقريباً 190 متراً مربعاً، ما يجعل سعر الشقة يتجاوز بالحد الأدنى نصف مليون دولار. مشروع DECK 32 الذي اُطلق أيضاً عام 2012، على ما ذكرت شركة «رامكو» في إصدارها، توقف مع بداية عام 2015 بسبب عدم تمكّن الشركة من بيع الشقق التي يبلغ حجمها 200 إلى 250 متراً بسعر يبدأ بـ 4500 دولار للمتر المربع، سعر الشقة في هذا المشروع يتجاوز المليون دولار بالحد الأدنى. يفكّر القيّمون على المشروع اليوم بـ»مراجعة مبدأ البناء»، بحيث يجري تصغير مساحات الشقق المبنية مستقبلاً. أمّا مشروع L›ARMONIAL، فقد أُطلق عام 2008 في الأشرفية بمساحة 13200 متر مربع سكني موزعة على 25 وحدة سكنية فقط، أي بمعدل 528 متراً مربعاً للشقة، وتوقف عام 2014.

يقول وسام حبشي، مدير التسويق والمبيعات في شركة mena capital صاحبة مشروع BELLA CASA، إنّ المشروع سُحب «لسبب رئيسي هو تراجع السوق العقارية»، متوقعاً أن «لا يُستكمل العمل به لأن الأرض التي كانت مخصصة له جرى فرزها وأصبحت مجموعة من الأراضي». يلفت إلى أنّ «الطلب في هذه المرحلة يعدّ أقل بكثير من العرض، فمنذ 5 سنوات كان من الصعب إيجاد شقة في بيروت، أما في المرحلة الأخيرة، فهبط الطلب بسرعة، وبات العرض فائضاً». يشرح حبشي الفجوة التي حصلت خلال السنوات الفائتة بين العرض والطلب: «منذ 5 سنوات، في أثناء الفورة العقارية، كان العرض إجمالاً موجّهاً إلى فئتين، هما: الخليجيون واللبنانيون المغتربون الذين تهافتوا على شراء عقارات بمساحات كبيرة، وفي مناطق فاخرة. لكن منذ بدء الأزمة السياسية، التي انعكست على السوق العقارية، لم يعد هؤلاء يرغبون في الاستثمار في لبنان، فبات الطلب محصوراً باللبنانيين المقيمين، ذوي الدخل المحدود الذين يبحثون عن شقق صغيرة ليتمكنوا من تسديد ثمنها عبر قرض سكني. هكذا إذاً، أصبح العرض لا يتوافق مع الطلب الموجود، فبات من الصعب إيجاد شقة بسعر مقبول لذوي الدخل المحدود. بالمقابل، واجه تجار البناء مشاكل في بيع شققهم الفخمة».

تقتصر هذه العينة الصغيرة على جزء من السوق العقارية في بيروت، علماً بأن مشاريع ضخمة أخرى توقفت خارج بيروت وداخلها لسبب رئيسي هو عدم وجود من يشتريها، ما أدّى إلى تجميد عشرات ملايين الدولارات بانتظار حلّ ما. المشاكل التي تواجهها هذه المشاريع اليوم هي أحد تداعيات الفورة العقارية التي بدأت عام 2008 وانتهت عام 2011.

كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟

عام 2008، شهد لبنان، وتحديداً بيروت، فورة عقارية ناتجة من تدفق حجم هائل من الأموال الخارجية إلى البلد إثر الأزمة المالية العالمية، ما أدّى إلى ارتفاع كبير في أسعار العقارات نتيجة المضاربات وازدياد الطلب الخارجي على العقارات. «ارتفعت أسعار الأراضي في بعض المناطق والقطاعات بنسب راوحت بين 200% و400% في خمس سنوات، بينما ارتفعت أسعار الشقق بنسب راوحت بين 100% و200% في المدة نفسها في الكثير من أحياء العاصمة بيروت والمناطق»، وفق ما أعلن عام 2010 المدير العام المساعد لمجموعة الاقتصاد والأعمال فيصل أبو زكي.

ازداد طلب المقيمين بحيث بات يشكل 75% من إجمالي الطلب

خلال سنوات «الفورة»، بات العرض يتجه إلى ملاءمة الطلب الخارجي الحاصل (لبنانيون مغتربون أو خليجيون) والمتمثل بشقق ذات مساحات كبيرة في قلب بيروت ملائمة لذوي الدخل المرتفع، علماً بأن الجميع يُدرك أنّ نوعية الطلب الخارجي شديدة الحساسية، إذ تتأثر كثيراً بالأوضاع السياسية والأمنية، بخلاف الطلب المحلي الذي لا يتأثر كثيراً بسوء الأوضاع، نظراً إلى استقرار المشترين في البلد. على الرغم من ذلك، تابع التجار تدمير الأبنية القديمة في المدينة واستبدال مبانٍ مرتفعة بها، حتى باتت هذه الشقق خارج القدرة الشرائية للمواطنين المحليين بالكامل، وبات ارتكازها بالكامل على القدرة الشرائية الخارجية التي يمكن أن تسدد مليون دولار ثمناً لشقة. نهاية عام 2011 انتهت «فورة العقارات» ودخلت السوق مرحلة الجمود: ابتعد المستثمرون الخارجيون عن البلد، فخسر تجار البناء الطلب الخارجي، ونتج من هذا الأمر أبراج فاخرة، لكن فارغة، أو مشاريع لم تُستكمَل. في لعبة السوق، من المفترض أن يؤدي انخفاض الطلب إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي «تصريف» هذه الشقق. لكن في النموذج الاقتصادي الريعي المشجع للمضاربات العقارية أصبح من المستحيل بيع هذه الأبراج التي بُنيت بتكاليف مرتفعة، منها سعر الأرض الذي ارتفع كثيراً في الفورة العقارية جراء المضاربات، لأنه مهما انخفض سعر الشقة البالغ مليون دولار، فلن يتمكن من ملاقاة الطلب المحلي الذي يستند إلى معدل أجور منخفض لا يمكّنه من الاستحصال على قرض سكني يفوق القدرة على التسديد (الكادر).

تغيير الاستراتيجية العقارية

الحل الذي يسعى تجار البناء إلى إيجاده لبيع هذه الشقق، تقليص مساحات الشقق، وإعادة استقطاب المستثمرين الخارجيين عبر تنظيم معارض ولقاءات للتسويق لها، لكن كذلك مهما قُلّصت مساحات الشقق المبنية على أراضي شُريت بأسعار خيالية، لن تصل إلى قدرة الطلب الداخلي. يؤكد رئيس جمعية تجار ومنشئي الأبنية، إيلي صوما، أنّ «قرار تغيير التوجه العقاري من بناء شقق كبيرة إلى مساحات صغيرة اتُّخذ منذ 4 سنوات تماشياً مع الطلب الموجود»، أي منذ بدء ركود قطاع العقارات. يُعلن صوما أنّ «ما يحافظ على وضع السوق العقارية اليوم هو القروض المدعومة المعطاة من قبل المصارف، بحيث تباع نحو 11 ألف شقة سنوياً عبر قروض السكن، مقابل 5 آلاف شقة تُباع للمغتربين وذوي الدخل المرتفع»، علماً بأنّ 38% من القروض السكنية لمصرف الإسكان (مثلاً) معطاة للمغتربين وفق مصادر مصرف الإسكان. يشير صوما إلى أنّ الطلب على الشقق الفاخرة لم يعد كبيراً، بل بات أصحاب هذه الشقق (الخليجيون) يتجهون إلى بيع عقاراتهم وليس الشراء، «لذلك بدأنا مجموعة من اللقاءات وتنظيم معارض في الخارج لجذب المستثمرين الخارجيين». هكذا لم يعد الطلب يتركز على بيروت الإدارية التي يبلغ سعر المتر المربع فيها نحو 5000 دولار، بل تحوّل إلى الضواحي وجبل لبنان، حيث يبلغ سعر المتر المربع نحو 1500 دولار.

يقول المدير العام لشركة «رامكو»، رجا مكارم، إنّه منذ سنوات كان الزبائن يتوزعون على النحو الآتي: نسبة 60% لبنانيون مقيمون و40% لبنانيون مغتربون وخليجيون. أما اليوم، فازداد طلب المقيمين، بحيث بات يشكل 75% من إجمالي الطلب مقابل 25% طلب المغتربين والخليجيين. إلّا أنّ هذا الأمر، برأي مكارم، لا يؤدي إلى مشكلة اختلاف بين العرض والطلب «فجميع مساحات الشقق والميزانيات متوافرة، وكل سنة يُسجّل انخفاض بنسبة 5% في معدل مساحات الشقق، لأنّ هناك توجهاً إلى أنه كلما ارتفعت الأسعار انخفضت المساحات لتتناسب مع الميزانيات». يشرح مكارم أنّ «الطلب حالياً يتركز على الشقق الصغيرة التي يبلغ سعرها أقل من نصف مليون دولار، وهذه الشقق يمكن إيجادها في المناطق الشعبية. أمّا المناطق الفاخرة، فيبدأ سعر المتر فيها بـ 3000 دولار».

شقة بـ110 آلاف دولار!

في حساب بسيط للقدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين من ذوي الدخل المتوسط، الذين يُسيطرون اليوم على جانب الطلب، باعتراف تجار البناء، يتبيّن أنّ المعدل الوسطي للدخل الشهري لهذه الفئة يبلغ 1500 دولار شهرياً، وبالتالي لا يمكن هؤلاء الاستحصال على قرض تتجاوز قيمة القسط الشهري له على مدى 30 عاماً ثلث الدخل الشهري. إذاً لا يمكن هؤلاء أن يدفعوا أكثر من 500 دولار شهرياً لتسديد قرض سكني، وبالتالي إن المعدل الأعلى للشقة التي يمكن هؤلاء أن يشتروها يبلغ 110 آلاف دولار، على أن يسدد المشتري دفعة أولى بنسبة 20% من ثمن الشقة، أي نحو 22 ألف دولار، ويبقى نحو 88 ألف دولار كقرض، يُسدد على 360 شهراً، إذا كانت سنّ المقترض تسمح بذلك، ويسدد مثل هذه القيمة كفوائد، أي ما مجموعه 176 ألف دولار. هل يمكن اليوم إيجاد شقق بهذا السعر؟ يُجمع معظم المواطنين على أنّ من الصعب جداً إيجادها، وإذا وُجدت فهي تعدّ «لقطة العمر».