IMLebanon

العائدون الى الخلود

لبنان كلّه في حداد. فالشهداء الذين اغتالهم الإرهاب غدراً، بل في أدنى الغدر (والغدر دناءة أصلاً) هم فخر هذا الوطن ومجال إعتزازه.

لقد جاءوا من لبنان كلّه… أجل كلّه: من العاصمة العريقة جاءوا، ومن الجبل الأشمّ، ومن الجنوب الصامد، ومن بقاع الخصب والخير، ومن طرابلس الفيحاء، ومن عكّار التاريخ النابض بالعزة والكرامة (…) جاءوا الى المؤسّستين الوطنيتين الجيش وقوى الأمن الداخلي.

ولقد جاءوا من الطوائف كلها: فيهم المسلم والمسيحي، وفيهم الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي والسني والشيعي والدرزي والعلوي (…).

وكان قدرهم يقودهم الى حيث بدأت المأساة، في عرسال، وحيث لاقوا مصيرهم الظالم والمشرّف في آن معاً في تلك الجرود العصيّة، وعرة المسالك، جرداء في معظمها، ولكنها أبية دائماً، أليفة الطبيعة الهوجاء شتاء، والراشحة عرق العافية تحت حرارة الصيف.

يوم إنتموا الى الأسلاك العسكرية والأمنية كانوا قد إتخذوا قرارهم. كانوا قد وضعوا على أَكُفهم دماءهم الطاهرة في سبيل الوطن الذي يستحق أشرف العطاءات قاطبة: المهج والأرواح.

ضباطاً من مختلف الرتب، رتباء، جنوداً وعناصر كانوا، يستيقظون صباحاً باكراً على تحية العلم، ويتوسدون تلك الضخور الصلدة، ويفترشون تلك الأرض الخشنة، ويلتحفون السماء… ويحلمون بوطن آمن خال من الإرهاب.

وفي المنازل اللبنانية الأصيلة، على امتداد جغرافية هذا الوطن المكتوب عليه أن يمشي حافياً على حدّ سيف مسنون، وأن يظل يمشي حافياً ولو سالت منه الدماء، ولو بلغت الجراح حدّ العظام… في تلك المنازل آباء وأمهات يتضرعون الى العلي القدير أن يعودوا آمنين معافين سالمين. وزوجات وأشقاء وشقيقات يعدّون الساعات ليعود الزوج والشقيق فيطل بوجهه الذي لوّحته شمس الجرود أو قرصه بردها ليستقبلوه بالحب والحنان. وأبناء وبنات، معظمهم أطفال تاقوا لـ «شوفة» البابا…

وكانت مأساة الإختطاف، بعد استشهاد ضابطين ورتباء وجنود…

وطال الإنتظار، واللهفة الى اللقاء تتبدّد يومياً مع مرور الساعات والأيام والأسابيع والأشهر والفصول والسنوات.

وها هم يعودون اليوم الى هذه الأرض الطيبة المعطاء، الأرض المجبولة بدماء الشهداء، بل الأرض المروية بدماء الشهداء.

وعيب وعار علينا أن نستقبلهم بالخلافات والأحقاد والبغضاء.

ولكم يصح في عودتهم الى ثرى الوطن الذي افتدوه بأرواحهم هذا البيت الخالد من قصيدة «شاعر الثريا» وديع عقل ومطلعها: «ماذا نعيتَ إليّ من أحوالِهِ».

«واخلعْ نعالَكَ قبلَ دوسِ تُرابِهِ

فترابُ لبنانٍ رُفاتُ رجالِهِ».