IMLebanon

وقت للركام وإزالته

 

 

 

من سوء حظ لبنان أنه يقطع شطرا من عمره تحت الركام، وأنه يقطع شطرا آخر من عمره، لإزالة الركام، كأنه على خط الزلازل، حيث تعوّد الناس على وقوع الكوارث الطبيعية، يتحمّلون عنائها وعناء إزالتها، يمضون دهرهم في إنتظار وقوعها، ثم لا يلبثون أن ينهضوا لإزالة أثقالها عن رؤوسهم.

إعتاد لبنان أن يعيش وسط الحروب المتدفقة إليه، ووسط الحروب المتدفقة عليه. يمضي عقدا أو عقدين تحت الحرب، وحين يضجر منها، يطلب وقتا من خارجها، لإزالة ما تسببت به الحرب من أضرار مادية ومعنوية.

مضت المئوية الأولى على هذه الشاكلة، على هذه الإشكالية. نصف من الوقت للحرب، ونصف آخر منه لإزالة آثارها.

لبنان ليس بلدا ناعم البال. دائما هو مشغول بالهموم الوطنية والإقليمية والإنسانية والكونية أيضا. ولهذا ترى أجياله مشتتين في أرجاء الأرض، يخرجون بلا أمل في العودة إليه، وإذا ما عادوا، فإنما يعودون لزيارة من تبقّى من الأهل، ولاستعادة الذكريات التي كانت لهم في المنزل والقرية والمدينة، وربما لاستعادة الرحلات إلى الجبل والساحل، حيث كانت لهم فيها الذكريات الجميلة.

لا تنتهي حرب في لبنان، إلّا لتأتي أختها. وبين الحرب والحرب الأخرى، يكون العمر قد ضاع بين الركام. ولهذا كانت الأجيال تعرف مواعيد الحروب من رائحتها في الإقليم، تماما مثلما تعرف الخيول مواعيد المطر، من رائحة الأرض. فيهرعون للتحضّر إليها، يبيعون ما عندهم من متاع، ويقطعون بثمنه تذكرة سفر، ويوفّرون الباقي لغربتهم، حتى يستطيعوا التوطّن خارج الوطن، ويقطعوا وقتهم في السؤال عن البلاد التي تركوها، وعن الدارة والمزار والقرية والمدينة والسوق.

وأما القسم الآخر من اللبنانيين، فقد اعتادوا على تحمّل أوزار الحروب. فهم دائما مدفوعون لمواجهة الأخطار التي تأتيهم من هذه الجهة أو تلك. يدافعون عن أرضهم كما الأبطال الأشاوس، ولا يقبلون المساومة، ولا يقبلون الضيم. يتحمّلون الخسائر كلها: هدم البيوت والمنازل والدارات. ويفضّلون الموت دفاعا عن الحدود. وإذا ما هدأت الحرب، إنصرفوا لإزالة ركامها، وأعادوا إعمارها من جديد.

مضى العمر في لبنان، والركام إما على الرؤوس، وإما مكدّسا أمام العيون، ينتظر وقتا مناسبا لإزالته: أن تتوقف الحرب، وأن ينهض الأهل لإزالة مخلّفاتها، وإزاحة أثقالها، وإعادة الإعمار من جديد.

وقت للركام ووقت لإزالة الركام. وبين هذين الفصلين، يقطع لبنان من حرب إلى حرب. فما بالكم إذا صارت الحرب توجّه بالذكاء الإصطناعي.. فلا تعرف وقت الركام، من وقت إزالة الركام. وتكون الكارثة الكبرى علينا، بإرادة ممن وراء الذكاء الإصطناعي، إنها الحرب الذكية التي تشنّ على لبنان اليوم، ولا يعرف لها موعدا للركام، ولا أيضا موعدا لإزالة الركام.

حقا صارت أيامنا كلها ركاما بركام، وأما العبرة فهي عند أهل الفطنة والنباهة فينا.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية