IMLebanon

لا اعتراض روسياً على مصادرة الأسد الدستور والانتخابات

 

لم تُفاجَأ روسيا بالحساسية البالغة التي أثارها الاقتراب من إدلب، بل أرادتها واستغلّتها لاستدراج صفقةٍ من تلك الصفقات التي لا يزال فلاديمير بوتين يحاول انتزاعها من الحكومات الغربية. سبقت التصعيد حملة استند فيها بوتين إلى قمّته مع دونالد ترامب في هلسنكي، وطرح فيها رزمة «عودة اللاجئين + إعادة الإعمار». كان يعلم أن المناورة لن تنجح، لكنه تعمّد تجاهل كل ما يعرفه مسبقاً، فالاتصالات التي لا تتوقّف مع دوائر الغرب وعلى كل المستويات لخّصت له الموقف: لعودة اللاجئين ولإعادة الإعمار شروط موضوعية غير متوافرة. فمن جهة تحول الظروف الأمنية والسياسية والقانونية والاقتصادية والخدماتية دون الشروع في هذين الاستحقاقَين. ومن جهة أخرى كان التفاهم الروسي- الغربي ولا يزال مبنياً على أن الحل في سورية سياسي وليس عسكرياً. لكن الحاصل الآن أن موسكو خدعت الجميع بترجيحها الحل العسكري وإحاطة الحل السياسي بالعراقيل والغموض. وبذلك تعزّزت مصالح النظامَين السوري والإيراني، كذلك مصالح روسيا في سورية، لكن المصالح الحقيقية التي يبحث عنها بوتين توجد في الغرب.

 

 

الأكيد أن الحكومات الغربية ليست متمسّكة باللاجئين لديها، وتتنافس على الفرص الاستثمارية التي تتيحها إعادة الإعمار، لكن عدم استجابتها لعروض بوتين عَنَت بوضوح أن ضمانات روسيا + ضمانات نظام بشار الأسد + الوجود الإيراني في سورية غير صالحة ولا كافية لإقناعها بالتعاون معهم، وقد أعطت أزمة الثمانية أعوام دروساً قاسية للجميع، خصوصاً للشعب السوري قبل سواه. هذه نتيجة «كارثية» بالنسبة إلى بوتين، فهو لم يخضْ تدخّله في سورية ولم يمضِ فيه إلى أقصى التغوّل والوحشية ولم يساهم في دفع اللاجئين إلى أوروبا ولم يعطِ موافقته على التدمير المنهجي واستخدام الأسلحة غير المشروعة بما فيها الكيماوية ولم يدفع الأميركيين والأوروبيين إلى قبول وتعايش قسريين مع فكرة بقاء الأسد في السلطة… إلا ليصل إلى اللحظة التي يجدهم فيها جاهزين لتلبية شروطه، لا للتشكيك في ضماناته. تكمن «كارثية» هذه النتيجة في أن روسيا مضطرةُ والحال هذه لأن تتحمّل كل تكاليف مغامرتها. ويعتبر بوتين أنه في صدد «إنهاء» الحرب السورية وأن على الحكومات الغربية أن تساهم في استحقاقات ما بعد الحرب. غير أنه يريدها أن تساهم من دون أن تتدخّل في خططه وأهدافه، ومن دون أن تسائله عما فعله بالحل السياسي.

 

لذلك تهيّأت روسيا لاجتياح إدلب، معتبرةً أنها منطقة سورية أخرى وأخيرة يجب أن تستعيدها «الحكومة الشرعية» كما تصفها، أي إلى قبضة النظام الذي يزدريه معظم العالم بسبب ما ارتكبه من جرائم. منطقة يُفترض أن لا تهتم بها واشنطن أو باريس أو حتى برلين، وهذا صحيح إلى حدٍّ كبير طالما أنها مرّرت استباحة كل المناطق الأخرى. بالطبع لم تعِر موسكو، كعادتها، أي اهتمامٍ لمعاناة ملايين من المدنيين، بل على العكس تستخدمها للضغط على الطرف الآخر، وركّزت فقط على ما يسوّغ المذبحة المعلنة، أي على «المجموعات الإرهابية». الاجتياح استكمالٌ للنهج الروسي- الإيراني– الأسدي، وتحدٍّ بوتيني لعقوبات أميركا وشروطها ولـ «الممانعات» الأوروبية. في الوقت نفسه، لم تقِم موسكو اعتباراً لـ «الشريك» التركي، الذي وجد نفسه فجأةً مضطرّاً لمراجعة استمراره في «مسار آستانة» وانتهاج ما يحمي مصالحه، فلا موسكو ولا أي أطراف أخرى مهتمّة بكون تركيا تؤوي نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، ولا موسكو و «الناتو» يباليان بهواجسها الأمنية والسياسية إزاء الخطر الكردي.

 

لم تعترف روسيا يوماً بأن في سورية أزمة بين نظام مستبدّ وشعب يريد الخلاص من هذا النظام، لذلك تجاهلت كلّياً أن إدلب صارت، بأهلها ونازحيها ومقاتلي الفصائل الذين رُحّلوا إليها، اختزالاً لهذه الأزمة برمّتها، وأن «استعادة» المنطقة المعارضة الأخيرة تتطلّب حُكماً توضيح الأفق السياسي أكثر مما تحتاج إلى ترسيخ الاحتلال الروسي- الإيراني. بل تجاهلت دائماً ما تعرفه جيّداً، منذ ما قبل تدخّلها، أن المجموعات الإرهابية كانت ولا تزال وسيلة ساهم النظام في تصنيعها لاختراق الانتفاضة الشعبية وتشويه صورتها وأهدافها. إلا أن الصورة الحقيقية عادت فتجلّت بوضوح في التظاهرات الحاشدة التي شهدتها إدلب، على رغم وجود جماعات «القاعدة»، ودوّى فيها المطلب الرئيسي «لا بديل من إسقاط الأسد». بماذا تعد روسيا أولئك المتظاهرين؟ بإخضاعهم فحسب، إن لم يكن بالتخويف والترهيب فبالسلاح الكيماوي. إذ استطاعت موسكو جعل استخدام هذا السلاح «مشرعناً» دولياً بعدما حصّنته ضدّ أي عقاب أو محاسبة، إلى حدّ أن السؤال لم يعد «هل» بل «متى» و «أين» سيقصف النظام معارضيه بالكيماوي.

 

تعاملت الحكومات الغربية مع الوجود الروسي في سورية من دون أوهام، وكانت تبنّت خيار «الانتقال السياسي» الذي يستبطن قبولاً مشروطاً ببقاء موقّت للأسد في السلطة لأن الخيارات الأخرى كانت في نظرها تستنسخ التجربتَين العراقية والليبية، لكنها استنتجت الآن أن ثمة تماهياً حصل بين بوتين والأسد سواء في الوسائل أو في الأهداف، لكنها مع ذلك لا تزال مضطرّةً للرهان على استشعار بالمسؤولية قد يستيقظ لدى الرئيس الروسي. لم تكن مقاربته لعقدة إدلب صائبة، صحيح أن التحذيرات الغربية استفزّته لكنها لم تهزّه بل أشعرته بأن ما لم يكسبه بعد سيخسره لوقت طويل، أما الاستعدادات العسكرية التركية فوضعته أمام احتمال تركه وحده مع إيران في «مسار آستانة»، لذا كان عليه أن يراجع حساباته مع رجب طيب أردوغان. ثم ها هي «المجموعة الدولية المصغّرة» تخاطبه عبر ورقة «إعلان المبادئ» من أجل حلٍّ سياسيٍّ في سورية.

 

عدا مطالبة «المجموعة» بأن تقطع الحكومة السورية «الانتقالية» العلاقة مع إيران وميليشياتها، وحسمها عدم المساهمة في إعادة الإعمار بالتعامل مع النظام الحالي، فإن بوتين قد يكون سجّل نقطتين «إيجابيّتَين» في الورقة، فهي لم تشر إلى الأسد ولم تُسقط «بيان سوتشي» الذي فرض تبنّي «اللجنة الدستورية» كمسار تفاوضيٍّ وحيد، لكنها تطرح بوضوح تقليص صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد لمصلحة رئيس وزراء لا يختاره الرئيس، كما أنها تعيد إحياء «مسار جنيف». هذا يعيد الرئيس الروسي إلى «تفاهمات» سياسية كان يظنّ أنه تجاوزها عسكرياً، ومع أن تركيا لم تعد في «المجموعة المصغّرة» إلا أنها تبقى أكثر انسجاماً مع معظم مواقفها. لعل تشديد «الورقة» على إشرافٍ للأمم المتحدة في كل مراحل الحل السياسي، من «التعديلات» الدستورية إلى تنظيم الانتخابات، أمرٌ يناسب موسكو التي ذهبت بعيداً في تدجين ستيفان دي ميستورا وفريقه، إلا أنهما لم يعودا صالحَين لإنجاز المهمّة كما تحدّدها ورقة «المجموعة المصغّرة»، وليس أدلّ إلى ذلك من أن غالبية ثلثَي «اللجنة الدستورية» ستكون من الموالين للنظام إذا استمرّ دي ميستورا في تشكيلها وفقاً للشروط الروسية.

 

الأسوأ من المصادرة المحتملة للدستور الجديد أن يمكَّن الأسد ونظامه من المصادرة المُسبقة لنتائج أي انتخابات، بمباركة روسية. فالدول المعنية والأمم المتحدة تحدثت دائماً عن إيجاد «بيئة مناسبة» لإجراء انتخابات «حرّة ونزيهة». قبل أيام (الأحد 16 أيلول/ سبتمبر) شهدت مناطق سيطرة النظام (باستثناء إدلب) انتخاب المجالس المحلية بمشاركة رمزية للناخبين الذين يعرفون أنها مجالس عيّنها النظام مسبقاً. هذه المجالس حلقة رئيسية في تطبيق ما رسمه النظام للاستيلاء على أراضي «الغائبين» وأملاكهم (القانون الرقم 10 والمرسوم 66)، وسيكون لها دور مباشر في إعداد «البيئة المناسبة»، لأنها تتحكّم بحياة الناس وبكل تفاصيلها (سكن، كهرباء، ماء، غذاء…)، وبالتالي فهي الذراع «المدنية» للقبضة الأمنية، خصوصاً أن نسختها الجديدة تُظهر صعود «الشبيحة» و «أمراء الحرب» إلى جانب البعثيين. ثم أن المجالس مرتبطة بـ «الأمانة السورية للتنمية» التي ترأسها أسماء الأسد، و «الأمانة» تشرف على تسلّم المساعدات وتوزيعها عبر «المجالس» والهلال الأحمر السوري، وتتدخّل في جزء مهم من مشاريع رجال أعمال النظام وأرباحهم. وهكذا تعتبر «المجالس» أداة سيطرة وهيمنة مباشرتين ليس فقط على الحاجات الأساسية للناس بل خصوصاً على أمنهم وأمانهم إذا كانوا معارضين وعلى خياراتهم للترشيح والانتخاب.