IMLebanon

الغموض الروسي هل يلجم حرب إسرائيل على الإيرانيين؟

 

لا حديث في اللقاءات الدولية إلا عن حرب إسرائيلية – إيرانية في سورية. ولا أحد يسأل هل تقع أو لماذا، بل متى وكيف؟ يتحدّث الإسرائيليون عنها منذ أكثر من عام، وفي كل مرّة يقولون إن كل تأخير يزيد خسائرهم البشرية المتوقّعة، وقد تأخّروا كثيراً عن المواعيد المحتملة التي حدّدوها، الى أن أصبحوا اليوم متعجّلين. كانت خططهم تقتصر على سورية، إذ لا يريدون تغيير الوضع المعقول بالنسبة اليهم في جنوب لبنان، وقد أجابهم «حزب الله» بأنه لا يتوقّع تصعيداً معهم ولا يريده، لكن تصوراتهم الأخيرة للعمليات لم تعد تستبعد امتدادها الى لبنان، إذ إنهم ردّدوا باستمرار أنهم لا يستطيعون التعايش مع ترسانة صواريخ متضخّمة على حدودهم الشمالية. كانوا هدّدوا في السابق بأنهم لن يوفروا أي طرف سوري أو لبناني، باعتبار أن الإيرانيين هم الذين ربطوا الجبهتَين في خطة دفاعية واحدة، ومع ذلك لا تتجاهل إسرائيل أن لها مصلحة في عدم دفع النظام السوري الى الانهيار ولا تريد استفزاز الروس الى هذا الحدّ، كما أنها لا تستطيع في الوقت نفسه التعرّض للجيش اللبناني بسبب ضغوط دولية تبدو حتى الآن فاعلة.

 

 

في تقويم إسرائيلي – أميركي أجري في واشنطن بعد مضي ثلاثة أيام على الضربات الثلاثية في سورية لم يعترض أحد من ممثلي الأجهزة كافة على أن تلك الضربات التي اقتصرت على استهداف منشآت السلاح الكيماوي لم تغيّر شيئاً في المعطيات الإشكالية في سورية. فروسيا دفعت بتصلّبها الى أقصاه، وبدل أن تستجيب الدعوات الى تفعيل مسار الحل السياسي ركّزت على ضرورة تصحيح العلاقات الدولية (تحديداً بينها وبين الولايات المتحدة) قبل أي شيء آخر، وبدت في المقابل أكثر تمسّكاً بالتحالف مع إيران، ثم أنها على رغم نفيها حسمت تردّدها وزوّدت نظام بشار الأسد منظومة صواريخ «اس 300» تم تمويه إنزالها من باخرة الى ميناء طرطوس تحت غيمة دخانية. وما لم تتلقَّ موسكو مبادرةً ما من واشنطن فمن المستبعد أن تغيّر مواقفها التصعيدية التي أثارت فيها فجأة مسألة التقسيم.

 

أكثر من مصدر نقل أن الاجتماع الطويل في واشنطن خلص الى ضوء أخضر لإسرائيل كي تهاجم الإيرانيين، مع كل الدعم الأميركي بما فيه القنابل الضخمة لاختراق الأنفاق وتدميرها، لكن من دون مشاركة أميركية مباشرة، إلا اذا اقتضتها الظروف. وقد عُرضت خلاله المعلومات الاستخبارية عن الاستعدادات الميدانية الإيرانية، خصوصاً بعدما ساهمت مواجهات العاشر من شباط (فبراير) الماضي والضربات الثلاثية والغارات على مطار الـ «تي فور» والهجوم الالكتروني الافتراضي في كشف خريطة الدفاعات ووسائلها. كذلك عُرضت نتائج الاتصالات الإيرانية (علي شمخاني في موسكو، علي أكبر ولايتي في دمشق، قاسم سليماني في دمشق وبيروت، وزير الدفاع أمير حاتمي في بغداد، وإحياء «التحالف الرباعي» الذي يشمل روسيا والعراق والنظام السوري). هذه المعطيات أبقت أسئلة كثيرة مفتوحة لدى الأميركيين والإسرائيليين عن النتيجة المتوقعة للحرب، وبالأخص عن موقف روسيا، فقد تكون لديها مفاجآت عسكرية ما لم يتم التنسيق معها، فهي قد تترك المواجهة تتفجّر لتستخلص مصلحتها منها أو ربما تستخدمها لإطلاق مساومات، مع الدول الغربية من جهة، وحتى مع الإيرانيين من جهة أخرى.

 

يمكن أن يكون التلميح الروسي الى تقسيم سورية مجرّد تكتيكٍ في سياق التحضيرات النفسية للحرب أو عرضٍ مسبق، لتجنّب مواجهة تخشى موسكو أيضاً أن تخرج عن سيطرتها. ومع أن الحديث عن التقسيم لم يعد ليدين أيّاً من الدول المتدخّلة أو يفضحها أو يُخجِلها، إلا أن روسيا وضعته في سياق حملتها التضليلية المكثّفة، منذ استخدام السلاح الكيماوي في دُوما، لتوجّه الاتهام الى الولايات المتحدة بالعمل على التقسيم. وفيما قال وزير الخارجية سيرغي لافروف إن موسكو «تراقب المحاولات الهادفة الى تقسيم سورية وتدميرها»، أضاف نائبه سيرغي ريابكوف في اليوم نفسه: «إننا لا نعرف كيف ستتطوّر الأوضاع في ما يتعلّق ببقاء سورية دولة موحّدة وما إذا كان بالإمكان الحفاظ على وحدة أراضيها»، وكان ريابكوف هو أول مسؤول روسي يقترح (أواخر شباط/ فبراير 2016) «إنشاء جمهورية فيديرالية» في سورية. أما الناطقة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا فشرحت أن لدى موسكو معلومات تشير الى «عزم المعارضة إقامة منطقة حكم ذاتي في جنوب سورية بدعم أميركي»، وأنها تتلقّى شحنات مشبوهة عبر الحدود الأردنية على أساس أنها مساعدات إنسانية أميركية». وكان مندوب روسيا في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا دعا الى جلسة خاصة للبحث في الوضع الإنساني في الرقّة، وبالأخص لاتهام أميركا بـ «الاستيلاء على الرقّة» .

 

كانت واشنطن أكّدت رسمياً أنها تعتزم تنظيم إدارة منطقة شمال شرقي سورية وتعزيز التنمية فيها بإعادة إعمارها، لكن الرئيس دونالد ترامب جمّد الـ200 مليون دولار التي قيل إنها خصصت لذلك الهدف. وعدا أن أميركا رعت توقيع اتفاق «منطقة خفض التصعيد» في جنوب غربي سورية، لم يُذكر أي سعي لها الى «منطقة حكم ذاتي»، لكن معارك الغوطة الشرقية والمناوشات المستمرة في حمص وحماة ومعركة عفرين وغموض الوضع بالنسبة الى إدلب أسقطت عملياً منظومة «مناطق خفض التصعيد» بسبب عدم ثبات التزامها من جانب النظام والدول الثلاث الضامنة (روسيا وإيران وتركيا)، وبالتالي قد تكون فصائل «الجبهة الجنوبية» طرحت توسيع منطقة سيطرتها استباقاً لأي هجوم عليها، خصوصاً أن طائرات تابعة للنظام قصفتها أخيراً لتغطية حشود برّية للإيرانيين. وربما يدعم الأميركيون مشروع المعارضة لهدف آخر يتعلّق بحماية خطوط التواصل مع قاعدة التنف وقوات «جيش مغاوير الثورة» (بقيادة المقدّم مهنّد الطلّاع) التي يُعتقد أن لها دوراً يُفترض أن يظهر قريباً في دير الزور.

 

تكمن المفارقة في أن الإلحاح الروسي على الضلوع الأميركي في التقسيم جاء متزامناً مع تصاعد الجدل في واشنطن على الضربات الثلاثية وتزايد الانتقادات لعدم وجود استراتيجية أميركية بالنسبة الى سورية. لكن التقويم العام للأداء الروسي لا يفيد بأنه أبلى بلاءً حسناً في الحفاظ على وحدة سورية واستبعاد شبح التقسيم، بل إنه على العكس سجّل قبل تدخله وبعده سلسلة مناورات أدت في محصّلتها الى إحباط الحل السياسي، سواء بمحاولات دؤوبة لإقصاء المعارضة ثم لتعديل تركيبة وفدها المفاوض، أو بمنع إحراز أي تقدّم في المفاوضات وعدم الضغط على النظام للانخراط في تفاوض جدّي وهادف، أو بالجنوح أخيراً الى الحسم العسكري لتمكين النظام والإيرانيين من استعادة السيطرة بل حتى تولّي الروس الاتصالات مع الفصائل والمساهمة في الخطط الإيرانية – الأسدية لتهجير مزيد من السكان المدنيين. ولا شك في أن عرقلة الحل السياسي شكّلت تمويهاً مبرمجاً لبلورة انتظام المتدخّلين جميعاً في عملية التقسيم.

 

أما بالنسبة الى الأسد وإيران، فقد كان التقسيم على أجندتهما منذ بدايات الأزمة وقد عملا على تطبيقه بالاجتياحات والمجازر واقتلاع السكان من بيوتهم ومواطنهم ثم توزيعهم بين الداخل والخارج. وفيما ضمن الأسد دويلته الساحلية التي تهيمن عليها ميليشيات طائفته وحصل على ضمانات دولية مبكرة لعدم اجتياحها أو التعرّض لها، يبدو مكوثه في دمشق بعد 2015 من متطلّبات اللعبة الدولية ودواعي تحصين تلك الدويلة، إذ إنه يمثّل «الدولة» والمؤسسات شكلياً، وهو ما يحتاجه روسيا وإيران كتغطية «شرعية» لمزاولة الاحتلال عملياً. ولا شك في أن الإيرانيين كانوا ولا يزالون الأسرع استثماراً في التقسيم الأكثر استفادة من اقتلاع السكان و «أملاك الغائبين» عبر المستوطنات التي أقاموها من دون أي اعتبار للنظام ويديرون بعضاً منها وفقاً لنموذج الكيبوتزات الإسرائيلية. والأهم أنهم الوحيدون الذين يملكون استراتيجية واضحة المعالم، خلافاً للروس والأميركيين وأبعد مما يمكن أن يذهب إليه الأتراك، والأكيد أنهم الوحيدون الذين استطاعوا توظيف وجودهم الاحتلالي في خدمة أهدافهم السياسية والعسكرية، بمعزل عما يمكن أن يكون مآلها مستقبلاً.