IMLebanon

استثمار روسيا «الاستراتيجي» في مصر ونفوذها في الشرق الأوسط

 

أثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية وحتى العسكرية، على مرّ التاريخ ولعقود خلت، أن العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام «الاقتصاد» من أجل تحقيق أهداف «السياسة»، مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من رصد أموال تكون أحياناً بلا حدود، لتمويل عمليات عسكرية، أو صفقات أسلحة متنوعة من شأنها أن تساهم في إحداث تغييرات «جيوبوليتيكية». وهذا ما تشهده حالياً العلاقات الدولية التي تتحكم بتطورات منطقة الشرق الأوسط في ضوء تداعيات ثورات الربيع العربي، بما فيها الثورة السورية وما نتج منها من صراع مصالح، إقليمياً ودولياً، وكذلك تطورات الثورة المصرية بمرحلتيها الأولى والثانية.

 

ومع التوسع في الاستثمارات المالية والمشاريع النفطية والصناعية والاقتصادية، وكذلك الاتفاقات العسكرية بين القاهرة وموسكو، تستعيد روسيا لحظات الاختراق الاستراتيجي الذي سجله الاتحاد السوفياتي في المنطقة منذ نحو 60 سنة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اتجه شرقاً بعدما خذلته واشنطن في التسليح وبناء السد العالي في الخمسينات. غير أن هذا الاختراق لم يستمر طويلاً عندما أقدم الرئيس الراحل أنور السادات (خليفة عبد الناصر) على طرد السوفيات من بلده عام 1973، بعدما اعتبر أن كل أوراق اللعبة هي في واشنطن. لكن هذه اللعبة التي استمرت بدورها نحو 40 سنة، خذلت مصر للمرة الثانية، وبدأ التاريخ يعيد نفسه، اذ تشهد هذه الأيام استعادة موسكو علاقاتها المميزة مع القاهرة التي تفتح لها الأبواب على مصراعيها لاستثمار نفوذها في المنطقة.

وتشاء الصدف أن يستعيد التاريخ نفسه، ليس فقط في مجال التسليح لجهة حصول مصر على صفقات جديدة من السلاح، وإعادة تأهيل السلاح القديم الموجود لديها، بل أيضاً لجهة عودة الخبراء الروس للاهتمام بتشغيل «السد العالي» واستثماره، خصوصاً بالنسبة لترميم التوربينات التي تولد الكهرباء، وهي من إنتاج روسي وأصبحت متهالكة، مع العلم أن ثمن التوربين الواحد يصل الى نحو 300 مليون دولار، ما يشير الى ضخامة كلفة عملية الترميم المطلوبة.

وفقاً لوزارة التجارة والصناعة في القاهرة، يبلغ حجم الاستثمارات الروسية غير البترولية في مصر نحو 66.5 مليون دولار، تم ضخها في 434 مشروعاً. ولكن تشير البيانات الرسمية للهيئة العامة للاستثمار، إلى أن عدد الشركات الروسية المسجلة يبلغ 428 شركة، مجموع رؤوس أموالها نحو 128 مليون دولار، ويأتي ترتيبها 47 بين الدول المستثمرة. ويذكر أن روسيا تستفيد من فائض تجاري كبير بلغ 6.2 بليون دولار في العام الماضي، إذ صدّرت الى مصر بقيمة 6.7 بليون دولار، واستوردت منها فقط بنحو 500 مليون دولار، وفقاً لإحصاءات جهاز الجمارك الروسي.

أما الاستثمار «الاستراتيجي» الذي تركز روسيا عليه لضمان مصالحها ونفوذها، ليس في مصر فقط بل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فيشمل النفط والغاز والصناعات الكبيرة والكهرباء من الطاقة النووية، ويقدر حجمه بما لا يقل عن 40 بليون دولار، وأهمها إنشاء منطقة صناعية روسية في محور قناة السويس باستثمار يصل الى نحو 7 بلايين دولار، على امتداد 10 سنوات بدءاً من العام الحالي. وقد وصف وزير الصناعة المصري طارق قابيل هذا المشروع بأنه يمثل نقلة نوعية في مستوى العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وسيجعل من مصر محور ارتكاز لانطلاق المنتجات الروسية الى الأسواق العالمية، بخاصة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

وهناك مشروع بناء محطة للطاقة النووية في منطقة الضبعة، والذي تم إطلاقه في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وحددت روسيا البدء في بنائه عام 2020، وستقوم بتنفيذه مؤسسة «روس آتوم» على مدى 7 سنوات. ويهدف المشروع الى توليد الطاقة الكهربائية بمعدل 4800 ميغاواط، وتبلغ كلفته 29 بليون دولار، يمول الجانب الروسي منها 25 بليون دولار، على شكل قرض بفائدة سنوية 3 في المئة، في مقابل نحو 4 بلايين دولار مساهمة من الجانب المصري.

إضافة الى ذلك هناك مشاريع النفط والغاز، منها مساهمة شركة «روس نفط» بنسبة 30 في المئة من حقل الغاز «ظهر»، الذي يعد الأكبر في المتوسط وتقدر احتياطاته بنحو 850 بليون متر مكعب، اشترتها من شركة الطاقة الإيطالية «إيني» في إطار صفقة بلغت قيمتها 8.2 بليون دولار. كذلك شركة «غاز بروم»، وهي من أبرز شركات استخراج الغاز الطبيعي في العالم، وقد بدأت خطواتها الاستثمارية في مصر نهاية عام 2012، ووقعت في نيسان (أبريل) 2015 اتفاق توريد نحو 35 شحنة غاز مسال لمصر على مدى خمس سنوات بمعدل 7 شحنات سنوياً حتى عام 2020.

إضافة الى مصر، يلاحظ أن روسيا توسعت في استثمار النفط والغاز في سورية ولبنان، وحتى في العراق، مع استمرار خلافها مع حكومة بغداد بسبب إقدامها على استثمارات نفطية مع حكومة كردستان في أربيل.

لا شك في أن الروس تمكنوا من إحداث اختراق كبير في التحالفات المرتقبة في المنطقة، بفضل جرأتهم والتمسك بحلفائهم، وبالتحديد حليفهم الوحيد ربما بشار الأسد، في مقابل «دولة أميركا المترددة». ولكن، بالطبع فإن روسيا لن تحل محل أميركا، مع التأكيد أن انحسار الدور الأميركي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، سيساعد في «تسخين» العلاقات مع موسكو، خصوصاً في إطار خلط أوراق كثيرة، قد تحدث توازناً في «لعبة الأمم» بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، على أن يبرز في هذا المجال دور العلاقات الاقتصادية وتمويل صفقات المواقف السياسية والسلاح وحتى العمليات العسكرية والأمنية.