IMLebanon

سعد الحريري و “الدويلة”

 

 

إذا كانت مشاركة أيمن رفيق الحريري في ذكرى اغتيال والده لافتة، فإن التعليق الذي نشره واصفاً فيه شقيقه سعد بـ “رجل دولة” يختزن رمزية شديدة الأهمية في العقل الجمعي السنّي، ولا سيما في ظل معاناة السنّة من أزمة جفاف “عميقة” على صعيد الشخصيات التي تحمل “دي إن أي” رجال الدولة الحقيقيين.

 

 

 

وهذا ما أكسب اعتزال سعد الحريري “الموقت” طابعاً ينحو نحو صورة “الإمام الغائب”، عاطفياً وسياسياً، لأنه كشف عمق أزمة صناعة السياسة سنّياً، والتي يتحمل “تيار المستقبل” قسطاً وافراً منها. فمنذ إبرام تفاهم “ربط النزاع” مع “حزب الله” حتى اليوم، لم يخرّج قادة أو ساسة يمكن أن يكونوا مشاريع “رجال دولة”.

 

لا بل توجه غداة الصفقة الرئاسية مع ميشال عون إلى استبدال القلائل من السياسيين الجدّيين في صفوفه، بشخصيات سِمتهم الأساسية الصمت والطاعة.

 

في موازاة تحشيد رجال الأعمال من “الأثرياء الجدد” وزُمَرِ بلطجية الشوارع. لم يجرِ “المستقبل” خلال فترة تعليق السياسة مراجعات حقيقية للوقوف على الإشكاليات التي واجهها خلال سنوات الحكم، واقتصرت اجتماعاته النادرة على تقديس رئيسه، على نسق الأحزاب الشمولية، واستخدام كل أدوات النفوذ لتهشيم أي حالة سياسية تحمل علائم “رجال الدولة”.

 

 

يدرك الحريري أن العودة إلى الميدان بلا دعم سياسي سعودي ستجعله محدود الفعالية، لذلك رفع خلال السنة الماضية عنوان “محاربة التطرف” في ظل حماوة الصراع بين تحالف “الإخوان” و”الممانعة” وإسرائيل، من دون أن يتخذ تياره موقفاً واضحاً من نشاط “قوات الفجر” والتنظيمات الأخرى. لا يستوي أبداً تسويق فكرة قدرته على إحداث التوازن المطلوب مع التنظيمات الراديكالية، في الوقت الذي يبارك فيه أمينه العام ورهطه صنيعها.

 

 

وبعد ما شهدته المنطقة من تحولات جيوسياسية، كان لِزاماً على الحريري أن يعود، خصوصاً أن حكومة الرئيس نواف سلام، ستصطدم عاجلاً أم آجلاً بنفوذه ضمن أروقة الدولة، وما الأنباء عن تغيير أمين عام مجلس الوزراء، والأسماء المتداولة لمنصب مدير عام قوى الأمن الداخلي، إلا مؤشرات تترى.

 

 

غير أن ما يجدر التوقف عنده، احتفاء الإعلام المقرّب من “الحزب” بـ “العودة الصغرى” للحريري، وأكثر منها بخطابه، واعتباره من قبل كتّاب على يمين الدويلة ويسارها بأنه “رجل دولة”، بعدما أمعنوا طيلة سنوات في غرز “نِصال” أقلامهم في جسد “الحريرية”، وتصويرها أنها رمز “المَنْهبة” و”الإفساد في الأرض”.

 

 

لا مناص من التذكير بأن “الحريرية” و”الدويلة” خطان متوازيان، تمثل الأولى النهضة العمرانية والعلمية والفكر التنويري، فيما تمثل الثانية الفكر الظلامي المتحلّق حول الدماء “المقدسة” و”الخائنة”، وأي لقاء بينهما يكون استثناءً نافراً. ولذلك لم يسمِّ “حزب الله” رفيق الحريري ولا سعد لرئاسة الحكومة يوماً.

 

 

هذا الغزل يعني في ما يعنيه استدراج الحريري إلى “تحالف المجاريح” بين “الإحباط السنّي” و”الطائفة المجروحة”، ولا سيما أن “الحزب” مد جسور تعاون حكومي وثيقة معه منذ عام 2016، من دون أن يسمح له بممارسة الحكم فعلياً، حيث دعم كل النزق العوني لتحقيق هدفه في تعطيل الدولة. لذلك أوفد محمد فنيش بالذات إلى “بيت الوسط” لدعوة الحريري إلى حضور تشييع أمينه العام، بسبب علاقتهما “الحكومية” الوطيدة. لكن الاهتمام المستجد واحترام المقامات السياسية كان يفترض ترجمتهما بترؤس محمد رعد للوفد، أو نائب على الأقل، أسوة بالمقامات الأخرى.

 

وهذه رسالة بين السطور تذكّر “أولي الألباب” بأن التحالف مع قتلة رفيق الحريري، مهما كان شكله وعنوانه، ما هو إلا “ترياق” لإعادة إنتاج نفوذ “الدويلة”، وسبب كافٍ لحجب أي غطاء سياسي عربي، ولا يعدو توصيف “رجل الدولة” إلا “كلمة حق أريد بها باطل”، والتي ردّ بها الإمام علي بن أبي طالب على حُجج “الخوارج”. وأسوأ منها التباهي بأسطورة “الإمام الغائب” الذي “منع الفتنة”، والتي تحمل خبثاً مُكّثفاً يرمي إلى أن السعودية أرادت حرباً أهلية في لبنان، وهذا تدليس تدحضه وقائع التاريخ والحاضر.