IMLebanon

سعد الحريري… زعيماً وليس ساحراً

 

بصعوبة كبيرة ينمو الخطاب السياسي اللبناني، ليلامس جوهر استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017. لا نزال محكومين بالشكل، على الرغم من عودة الحريري إلى بيروت، ماراً بباريس ولقاء الإليزيه الذي يليق بشخصية دولية رفيعة، ثم مصر، ثم قبرص، وصولاً إلى بيروت، وتحديداً ضريح رفيق الحريري، قبل يوم اللقاء بالجماهير التي احتشدت في باحات «بيت الوسط» والطرق المؤدية إليه، مكرسةً الرمزية السياسية لزعامة هذا الرجل.

ما حصل منذ ظهيرة 4 نوفمبر حتى أول من أمس، في بيروت، رحلة معقدة، مرت ببيان استقالة زلزال، ثم إطلالة تلفزيونية من الرياض، حدد الحريري سقفها بضرورة الوصول إلى تسوية نهائية وحقيقية لموضوع «حزب الله» الإقليمي، ثم كلام باريسي استكمل وضع النأي الفعلي بالنفس على طاولة البحث الوطني، كشرط لاستعادة التوازن إلى دولة لبنان وعلاقاتها، ثم إعلان التريث في تقديم الاستقالة الذي فاجأ الوسط السياسي والشعبي في لبنان وخارجه.

مرة أخرى سنغرق في نقاش الشكل وليس المضمون. لم يغادر البحث والتعليق السياسي مستوى المناكفة، والغمز من قناة تراجع هنا أو تراخٍ هناك، ولم يتجاوز البحث الرغبة العارمة بتحويل الاستقالة إلى مباراة فيها رابحون وخاسرون.

وسيظل الشكل أداة للمراوغة كي لا تدخل البلاد في النقاش الحقيقي حول مضمون استقالة سعد الحريري، المعلقة، ولكن المستمرة أسبابها الموضوعية، وهو ما أعلنه الرجل مباشرة من قصر بعبدا، حين وافق على التريث لمعالجة الأسباب.

ما أثبتته تجربة الحريري حتى الآن أن عصبه السيادي أصيل، وأنه ليس مجرد حصان في صراعات الإقليم، يُملى عليه فيستجيب، كما أثبتت أن حضور لبنان وسلامته ومستقبل أبنائه في حساباته يحتل الأولوية المطلقة، وأنه مستعد لكل المناورات التي بوسعها أن توصل لبنان واللبنانيين إلى تسوية حقيقية ونهائية، تخرج لبنان من النفق الذي دخل فيه، ولا يزال فيه، مهما خيل للبعض عكس ذلك.

لسنا بإزاء «أزمة وعدت»، على ما يقول المصريون. بل نحن أمام امتحان وطني خطير، نتج عن اختلالات ثلاثة.

اختلال أول في إدارة التسوية السياسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، والرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. قامت التسوية نظرياً على الشروط التي أعاد الحريري وضعها على الطاولة اليوم، وأساسها النأي بالنفس، وعدم تحويل لبنان إلى منصة للعدوان على العرب. حسن الظن يفترض أن الرئيس عون حاول ولكنه لم ينجح في استثمار قيمته المعنوية والسياسية عند «حزب الله»، وموقعه الدستوري «كرئيس قوي» بغية ضبط «حزب الله» تحت سقف المصلحة الوطنية اللبنانية ومصلحة لبنان المشتركة مع العرب. كان الرهان على عون بحسب «عقل التسوية» أن يشكل عامل توازن وطمأنة للحزب كما لخصومه، وهو ما سقط في الأسابيع الأولى التي أعقبت تسوية انتخاب الجنرال رئيساً.

اختلال ثانٍ، في العلاقة السعودية اللبنانية، التي لطالما اتسمت بالوضوح في المشتركات السياسية، وفي فهم متبادل لخصوصيات البلدين. اعتلت صحة هذه العلاقة عند أكثر من منعطف، ودخل فيها الخاص بالعام، وبدت رقعة سوء الفهم أوسع مما تخيله كثيرون، وصولاً إلى استقالة الحريري من الرياض وما تلاها من التباسات فاقمت الخلل بين بيروت والرياض. إن استقامة العلاقات اللبنانية السعودية على قاعدة فهم الخصوصية اللبنانية والعلاقات الودية، هو أساس لتطوير رؤية مشتركة عاقلة وفعالة لمعالجة سؤال «حزب الله»!

أما الخلل الثالث والأساسي، فهو في تعامل «حزب الله» مع هذه التسوية بوصفها غطاءً لما يقوم به، مستغلاً ما سمي ربط النزاع، للمضي قدماً في مشروعه الأمني والعسكري من لبنان إلى اليمن وما بينهما! لم يتنبه «حزب الله» أن استنزاف التسوية، عبر الإمعان في إدخال لبنان في أتون الحرب بالوكالة بين إيران والعرب، سيكون سريعاً إلى هذا الحد.

استقالة سعد الحريري، المعلقة، أعادت وضع هذه الاختلالات الثلاثة على الطاولة. فسعد الحريري لن يكون وحده مسؤولاً عن صيانة المصلحة اللبنانية العليا، وهو ما يلزم العماد عون أن يجعل من عهده عهد تحرير لبنان من شذوذ السلاح غير الشرعي، وشذوذ أدواره الإقليمية، بإعلان سياسي جديد يلتزمه اللبنانيون ويلزم الإقليميون أنفسهم به.

لبنان بهذا المعنى يترجح بين حدين: حد الأزمة الأعمق بكل مخاطرها، إذا ما قرر «حزب الله» أن ما حصل «أزمة وعدت»، وأن سقفه هو سقف كلام قائد «الحرس الثوري» قبل أيام عن استحالة نزع سلاح «حزب الله»؛ وحد التسوية الحقيقية والنهائية، إذا ما قرر «حزب الله» أن يلتقط بصدق اليد الممدودة إليه.

سعد الحريري خرج من لبنان في ظل أزمة كبرى، وعاد إليه حاملاً فرصة أكبر، وهو سينتظر قليلاً قبل أن يقرر ما هي النقلة المقبلة.

عاد زعيماً لا غبار على زعامته، ورمزاً لا مناص من فهم رمزيته في وجدان الناس. هذا صحيح، لكنه لم يعد ساحراً يشق بحر الأزمة بضربة من عصاه. الحريري فرصة إذا ضاعت، ضاعت معها البلاد.