IMLebanon

سعد الحريري الجديد: زعيم بلا وكلاء!

 

قد يكون من الصعب رسم «بورتريه» دقيق لسعد الحريري اليوم. اكتمال الشخصية يحتاج إلى انتظار النسخة الجديدة من الرجل. لعبته المفضلة اليوم، تنحصر في تثبيت صورته اللبنانية الكاملة. لا يعني أنه سينزع عنه كل إضافاته الإقليمية والدولية، لكنه قد يكون استعاد، لأول مرة، الأصل المحلي الذي صار يتحكم بكثير من أفعاله وحتى أقواله.

 

يعرف سعد الحريري، الآن، أن ما بقي له مما ورثه عن والده، لا يتجاوز صورته السياسية بمعناها المحلي، وإرث العلاقات الخارجية الذي ينحسر هو الآخر كما الإرث المالي. لم يعد في المنطقة والعالم من يفتح الخزائن أمام الشاب. في أرجاء المعمورة، لم يعد الحريري يملك سوى القليل، ما يساوي نصف ما كان يملكه يوم مقتل أبيه. في السعودية مثلاً، خسر كل شيء تقريباً. كانت المملكة مركز الثقل في الملكية وفي الإنتاج. اليوم، ينتظر الحريري مكرمة ملكية تقضي بإعلان مقاصة لتصفية ديونه وأملاكه التجارية. وهو خسر ما بقي له من ملكيات خاصة. المنزل والعقار في وادي أبو جميل نقلَ ملكيتهما إلى أفراد من عائلته الصغيرة، وبطريقة تصعّب عليه التصرف بهما أيضاً. وتوقفت غالبية ساحقة من الأعمال التي تدرّ الأموال كما كان عليه الأمر. وليس متوقعاً في ظل إدارة محمد بن سلمان أن تجري الأمور بطريقة مختلفة. اللهم إلا إذا استجاب الله لدعاء سعد، بأن يعيد الدبّ الداشر إلى قفص من ذهب. ومع ذلك، لن يكون بمقدور سعد تجاوز مشكلته الخاصة مع بن سلمان. وذاكرته الطرية تصعّب عليه محو آثار محنته القاسية في خريف عام 2017.

في السياسة، تيقّن سعد من قواعد اللعبة الجديدة في لبنان والمنطقة. لا يدعي الرجل أن الجيوش الجرارة من الجماهير تسير خلفه اليوم كما عام 2005. ذلك المشهد اختفى إلى غير رجعة. المسيحيون استعادوا مساحتهم العامة. وبينهم وبين سعد معارك كبيرة مكتومة. العونيون منهم مشغولون بحصاد العودة إلى الدولة، والقوات وبقية الأحزاب يقاتلون حتى لا تتكرّر تجربة إقصائهم كما جرى أوائل التسعينيات. وعلى المقلب الآخر، يقف آل جنبلاط بلا حول ولا قوة. حالهم لا يسرّ أحداً. لا هم يفيدونه بشيء، ولا هو بقادر بعد على رشوتهم بالنفوذ والأموال. وقدراتهم محصورة اليوم في الانتحار احتجاجاً. بينما يقف الشيعة على الضفة الأخرى من النهر. خصوم الحريري بينهم ثبّتوا نفوذهم بعد توسعته. أما مناصروه، فقد أحبطهم المسار السياسي ولفظهم خارج المشهد.

ليس صحيحاً أننا بحاجة إلى عالم نفس حتى يفسّر لنا تصرفات الحريري الأخيرة مع المحيطين به. مع أركان فريقه اللصيق، أو مع كوادر تياره الحزبي، أو حتى مع فعاليات المناطق والقطاعات. المسألة ببساطة يمكن فهمها من خلال تلمّس انخراط الرجل في اللعبة الداخلية بكل تفاصيلها. ما طرأ على وضعه الشخصي، سياسياً ومالياً، معطوفاً على واقعه عند النافذين إقليمياً ودولياً، يجعله يلتصق أكثر بالمعادلات الداخلية. سيكون من الصعب على الحريري الإقرار بالسقوف الجديدة. وحده يعرف، أو لنقل أكثر من غيره، أن المعادلة الداخلية عادت لتكون الأساس في موقعه وتموضعه. الإقليم وكل العالم لم يعد ينفعهما في البقاء رئيساً للحكومة إذا ما رفضه حزب الله والتيار الوطني الحر. وهو لذلك ينشغل في تدبير أموره مع الطرفين. وحتى اللحظة، يتحدى الرجل الآخرين، حاملاً سيف التفاهم الكبير بينه وبين الفريقين. هو يثق بأنهما يفضلانه على سواه. على الأقل في هذه اللحظة. وعليه أن يحسن استغلال الفرصة، حتى يثبت أنه غير قابل للاستبدال. والصفقة الرئاسية التي أجراها معهما قبل عامين، قابلة للتمديد أو التجديد لو تطلب الأمر. لم يعد الحريري يشغل نفسه بالشعارات الكبيرة التي يعرف أنها فواتير للخارج. هو مضطر إلى أن يدرس اليوم، وكل لحظة، شكل التحول الجديد في المنطقة من حولنا. هذه المرة، سيعود الحريري إلى دمشق، لكن ليس منفّذاً رغبات ملك السعودية وطلبات أميركا وفرنسا، ولا خائفاً على حياته أو نفوذه، بل ستكون أمامه فرصة العودة كجزء من توليفة جديدة تحكم لبنان، وفيها عناصر قوة لا تقدر دمشق على تجاوزها. وبمقدور هذه التوليفة أن تفتح الأبواب أمام الحريري لتطبيع عادي وسلس وغير سريع مع سوريا، وهي حقيقة قوية مهما علا صراخ المنهزمين.

عنصر الاطمئنان الآخر لدى سعد، أن خصومه من داخل الطائفة ليسوا بالقوة التي تُصرف إبعاداً له عن جنة الحكم. ما يمكن أن يقلق الحريري، خروج قيادة تقول بإجراء مراجعة للسنوات السبع الماضية، تعيد قراءة الموقف من سوريا ومن المقاومة، وتعيد رسم توازناتها الإقليمية والخارجية، وتتصرف بمسؤولية أمام مصلحة الجماعة الكبيرة، وتتصرف بعقل، ولا تقف عند خاطر من يرى التراجع تنازلاً وانهزاماً وضعفاً.

 

ليس المطلوب التوقف عن الاستماع إلى وصايا الخارج، بل مناقشتها ومقاومة كل ما من شأنه دفع البلاد إلى الفوضى

 

قلق الحريري يكون من قيادة تخرج لتقرأ المعادلات بطريقة واقعية ليس للوهم فيها مكان، ولا حتى للأحقاد والتمنيات. وتعرف دقة واقع أميركا التي لم تعد قادرة على القيام بالكثير. وتقرأ جيداً أن إسرائيل لا يمكنها قلب المعادلات رأساً على عقب. قيادة تدرك جيداً حال أهل الجزيرة العربية، وحال ممالكها وإماراتها المتورطة في مآسي مشرق الوطن العربي ومغربه، وقلبه فلسطين. وقلق الحريري يتعاظم من أن خرج صوت يقرّ بأن الطرف الآخر، الممتد من روسيا حتى غزة، مروراً بسوريا والعراق وتركيا وإيران ولبنان، قد دخل مرحلة تثبيت ما أنجزه خلال 15 عاماً من المقاومة الشرسة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان الغرب يعمل على أن يكون الحريري وفريقه رأس حربته للحكم في لبنان والمنطقة.

الأكيد أن «التيار السياسي لسُنّة لبنان» يدخل اليوم مرحلة جديدة من التموضع. حصة الحريري فيه تتراجع عديداً، ونفوذاً وحماسة يوماً بعد يوم. وحصة خصومه قابلة للتعاظم ربطاً بمستقبل العلاقة مع سوريا، أو بانقلاب داخلي يدفع بالطائفيين بعيداً.

أما الوسطيون، فدلّت الوقائع على أنهم ليسوا معارضين يملكون القدرة والكفاءة والشرعية لوراثة الحريري. هم لا يدفعونه حتى إلى القلق. وتجربة تشكيلة الحكومة، تظهر أنه استوعبهم بأسرع ممّا كان يعتقد. والأخطر أن الحريري تيقّن من أنهم لا يمثلون حاجة للمحور الآخر الذي خبرهم وفقد الأمل منهم. أما الذين اتخذوا موقفاً حاداً من الحريري ومن خصومه في آن واحد، فهم ليسوا برقم لا يمكن تجاهله.

اليوم، علينا مراقبة سعد الحريري بنسخته الجديدة. حاضر بنفسه من دون وسطاء أو وكلاء. متوغل في تفاصيل اللعبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلى حدود التورط في معارك متفرقة، مع أهل بيته قبل الآخرين. وعلينا مراقبة الرجل الذي بات يحتاج إلى عناصر قوة محلية الصنع والتسويق، وهي عناصر يمكنه العثور عليها، إن أحسن الهدوء والصبر، وعدم المبالغة والتشاطر. والأهم، ليس في التوقف عن الاستماع إلى وصايا الخارج العربي أو الغربي، بل مناقشتها بقوة، ومقاومة كل ما من شأنه دفع البلاد إلى مشهد الفوضى التي ستجعله أول الخاسرين.