IMLebanon

«سارة» والعسكريّ.. يستدرجان ضبّاطاً سوريين منشقيّن قبل قتلهم؟

في نهاية 2014 وأوائل 2015، اختُطف ثلاثة ضبّاط سوريين منشقّين. سرعان ما اختفى أثرهم، ليتبيّن لاحقاً أنّهم أدخلوا إلى الدّاخل السوريّ عنوةً ثم سلّموا إلى أحد ضبّاط النظام ليتمّ تعذيبهم وسجنهم ثم قتلهم.

كان الحبل على الجرار ولائحة المنشقين لا تعدّ ولا تحصى، إلا أنّ الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة لم تترك الموضوع، بل تابعت التحقيقات التي تركّزت حول «داتا» الاتّصالات. الصّدمة كانت أنّ الضبّاط الثلاثة كانوا على اتّصال مكثّف مع رقم خلويّ تبين أنّه مسجّل باسم «سارة».

هكذا، لاحق الأمنيون الخيوط التي كشفت عن قصّة بوليسيّة غريبة، تقترب من كتابات أغاتا كريستي! فكلّ أبطال هذه الرواية لهم أسماء حقيقيّة وأخرى وهميّة، بمن فيهم الضحايا. أما العنصر الأهمّ، فهو العسكريّ في مفرزة استقصاء الشمال الذي كانت مهمّته جمع المعلومات لمصلحة الدولة اللبنانيّة وجهازه الأمني وعمد إلى توقيف المتورطين باعتباره رجل أمن، وقد بنى لنفسه شخصيّة وغايات أخرى. فمرّة كان فيها خال «سارة» ومرة والدها، ومرّات «رأسها المدبّر».

في تلك الفترة، تعرّف العسكريّ على منار (سارة) المجازة في الأدب الفرنسي. هو يقول إنّه سخّر معرفته بها لتكون مخبرة موثوقة في منطقتها، فتخبره من أطلق النّار ومن يحضّر لأعمال أمنيّة.. أمّا هي فتضع الموضوع في خانة الصّداقة وخدمات مجانيّة للدّولة اللبنانيّة.

الرّابط بين الاثنين كان السوري (محمّد م.) الذي كان يعمل في مجال التّهريب بين لبنان وسوريا، وعلى علاقة مع ضابط برتبة عقيد في «الدّفاع الوطنيّ السوريّ» في إحدى المحافظات السوريّة القريبة من الحدود مع لبنان.

خلال هذه الفترة، طلب العقيد المذكور من محمّد أن يخطف عدداً من الضبّاط المنشقّين الموجودين في لبنان، على أن يزوّده بأرقام هواتفهم وعناوينهم في لبنان، ثمّ يقوم بتسليمهم إلى مجموعة سورية تكون مهمّتها نقلهم إلى الدّاخل السوريّ، وذلك مقابل تسهيل أعمال التهريب (التي كان يقوم بها محمّد) ولقاء مبالغ ماليّة.

ولذلك، طرح محمّد الأمر على العسكريّ علي، الذي بإمكانه تسهيل عمليّة الخطف بعد أن يستغلّ صفته الأمنيّة.

وهذا ما حدث عندما طلب العسكري علي من «منار» أن تتحدّث مع أحد الأشخاص، موهماً إيّاها بأنّ الأخير مطلوب للدّولة اللبنانيّة وعليها أن تستدرجه لإلقاء القبض عليه مقابل أكثر من 600 دولار عن كلّ عمليّة. رفضت «منار» هذا الطّلب، قبل أن يقنعها علي بأنّ لا أحد قادر على القيام بهذا الموضوع سواها كون شخصيّتها قويّة.

وما إن قبلت «منار» حتّى أرسلت رسالة عبر «واتس اب» إلى الضابط المنشقّ إسماعيل العنطاوي قبل أن تعمد إلى إرسال رسالة أخرى مدّعية أنّ رسالتها الأولى كانت عن طريق الخطأ وكانت موجّهة إلى صديق لها في الجامعة.

الرسالتان كانتا الفخّ الذي أوقع بالعنطاوي الذي ادّعى بدوره أنّ اسمه «عبدالله» من دون أن يخبر «سحر» (الاسم المستعار لـ«منار»). وتوطّدت العلاقة بين الاثنين، لتطلب «منار» من العنطاوي ملاقاتها في طرابلس.

وافق الضابط على اللقاء، وانتقلت «منار» إلى منزل (محمد م.) برفقة علي. وكان المخطّط أن ينطلق الرجلان ما إن يتّصل العنطاوي بـ «سحر» ويخبرها بوصوله. ولكنّ العنطاوي لم يردّ على اتصالاتها قبل أن يجيبها صراحةً أنّه يخاف المرور عبر الحواجز كونه لا يملك أوراقاً ثبوتيّة.

وخلال الحديث بين «سحر» والعنطاوي، أخبرها الأخير أنّه يبحث عن عمل. فكان «الطّعم» الذي استُدرج به، إذ سارعت «سحر» إلى عرض المساعدة عليه عن طريق والدها وأعطته رقماً يعود إلى العسكري علي، مدّعية أنّه والدها ويدعى «أبو محمّد» ويمكنه أيضاً أن يسهّل له مروره عبر الحواجز. وبالفعل، انتقل العنطاوي إلى عكّار لتلبية اللقاء، فوقع بيد علي الذي نقله إلى منزل (محمد م.)، قبل أن يقوم الأخير بتكبيل يديه ورجليه ويرسل الصّورة إلى أحد أفراد المجموعة المكلّفة نقله إلى الدّاخل السوريّ. وما هي إلّا فترة قصيرة، حتّى وصلت رسالة بتاريخ 4 كانون الثاني 2015 من السوريّ (محمّد ح.) إلى (محمّد م.) يقول فيها «أحضر الفروج لذبحه»!

فعلاً، نقل العنطاوي إلى سوريا عبر طريق النّهر الكبير.. ومنذ تلك اللحظة لم يعرف عنه أي شيء سوى أنّه تمّ تعذيبه وقتله!

وإذا كان الضابط المنشقّ جاسر المحاميد قد لقي مصير العنطاوي نفسه بنقله إلى سوريا وقتله، فإنّ أسلوب «منار» اختلف بين الضحيتين. في المرّة الثانية، اعتمدت الغزل في رسائلها، وظنّ المحاميد، الذي ادّعى أنّ اسمه «عبدالله» وهو عازب، قد أوقع الفتاة بغرامه وهي التي حاولت مساعدته أيضاً عبر إعطائه رقم خالها «مروان» (العسكريّ علي) الذي سيساعده في إيجاد فرصة عمل.

وفي 26 كانون الثاني 2015، كانت الرسالة قد وصلت من (محمّد ح.) إلى هاتف (محمّد م.) ومضمونها: «المزرعة جاهزة إذا بدّك تجيب العجل»!

اختفى أثر المحاميد. شكّت زوجته التي كانت على الأغلب تراقب هاتف زوجها قبل خروجه، أن زوجها مع «سارة» أو خالها «مروان»، فأرسلت رسالة نصيّة إلى «سارة» من دون أن تكشف هويتها، لتسأل الفتاة عن المحاميد الذي خرج ولم يعد.

وبكلّ دمٍ بارد، أجابت «سارة» أنّ خالها «مروان» أوصل المحاميد إلى مقرّ إقامته بعدما أوجد له عملاً، ولا تعرف عنه أي شيء.

ومن المحاميد انتقلت «سارة» (منار) إلى الضابط المنشقّ كمال باكير. لم يكن الأخير يحتاج لا إلى امرأة يتبادل معها حديث الغزل ولا إلى فرصة عمل. جلّ ما كان يريده هو تسوية أوضاعه القانونيّة. ولذلك، أوهمه العسكريّ علي أنّ بإمكانه ذلك. ولإقناعه أكثر راح يتّصل به من الرقم الأرضي التابع للمفرزة، قبل أن يختفي الرّجل!

الرابع والأخير كان الضابط السوريّ المنشقّ وسام رمضان الذي كشف المخطّط قبل أن تقوم المجموعة بخطفه. وهنا تتعدّد الروايات، لكن المحصلة واحدة، اذ إن المخطّط الأخير لم ينجح كسابقاته، بسبب هروب رمضان ثم تمكن القوى الأمنيّة من إلقاء القبض على كل من «منار» والعسكري علي و(محمد م.) عن طريق «داتا» الاتصالات وهم ما زالوا يحاكمون أمام المحكمة العسكريّة.

أمس، مثلت الموقوفة «منار»، أمام المحكمة العسكريّة. جسدٌ نحيل لفتاة مرتبكة ويدان ترتجفان، لتجيب رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل إبراهيم أنّها لم تكن على علم بأنّ من تتحدّث معهم هم ضبّاط منشقون، بل ظنّت أنّهم من المطلوبين للدولة اللبنانيّة، فيما أشار العسكريّ علي إلى أنّه لم يسلّم الضبّاط إلى السوريين بل إلى «المعلومات» ومخابرات الجيش التي كان ينسّق معها وكان يعمل مع العديد من المخبرين بغية إلقاء القبض على مطلوبين، قبل أن يرتبك حينما أبرز العميد إبراهيم صوراً للضحايا يتعرّضون للتعذيب، وكانت هذه الصور موجودة على هاتفه.

وأرجأ إبراهيم الجلسة إلى 30 تشرين الثاني المقبل.