IMLebanon

إنقاذ سوريا والمنطقة يتوقَّفُ على إفشال الأجندة الإسرائيليَّة

 

 

تُشكلُ تطوراتُ الأحداث في سوريا الشُّغل الشاغل للمُهتمين في مستقبل منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن ما يحصل في الجنوب السوري من نزاع ما هو إلَّا نتيجة أوليَّة لما آلت إليه الأوضاعُ المَيدانيَّةُ التي أسفر عنها الصراع ما بين محور المُمانعة وإسرائيل، والذي لم تنتهِ فصوله بعد، فعلى الرَّغمِ من انشِغال قادةِ العَدو الإسرائيلي بحروبهم على جَبهات عِدَّةِ إلَّا أن أعينهم لم تغِب عن الجَبهة السُّوريَّة، والتي ما إن أُعلِن عن انهِيارِ النِّظامِ البعثي فيها حتى بادَرَت إسرائيل إلى تَدمير كُلِّ ما تبقّى من ترسانته العسكرِيَّة.

يهدفُ قادةُ إسرائيل من تدميرِهم لقدرات سوريا العسكريَّة إلى إضعاف قُدرة السُّلطةِ الانتِقاليَّة فيها بقيادةِ أحمد الشرع ومنعِها من إحكامِ سيطرتها على كامل إقليم الدَّولة، تمهيداً لإسقاطِ السُّلطة. ومطامعُ قادة الكيان لا تقف عند هذا الحد بل هم يتطلّعون لتفتيت سوريا والمِنطقة، لذا سارعوا إلى احتلال جبل الشيخ، ودفعوا بوحدات جَيشِهم إلى التَّوغُّلِ في عُمق الجَنوبِ السُّوري وصولاً إلى تُخومِ مُحافظَةِ السُّويداء ذات الغالبيَّةِ الدرزيَّة، وشجّعوا المُتعاملين معهم من الدروز على تأسيس مَجموعاتٍ انفِصالِيَّة، وبادروا إلى الإعلان عن تكفُّلِهم بحِمايَة الدُّروز باعتبارهم أصدقاءً لإسرائيل.

 

التَّدخُّلُ الإسرائيلي في سوريا ليس وليد السَّاعة ولا من باب الحِرصِ على دروز السُّويداء، إنما لاتِّخاذهم دريئةً تفصل بين الكيان الصهيوني والعُمق السُّني في سُوريا والعراق، هذا بالإضافةِ إلى رغبتهم في اتخاذ بعضِ الدروز كأداة لتَقويض الاستِقرار الأمني في المِنطقة، بإثارةِ فتنٍ تُكرِّسُ الانقِسامات الفئويَّة، لذا تعمَّدوا استِحضار الخِلافاتِ ما بين دروز السويداء والعشائر العربيَّة (المُنتشِرَة ما بين السُّويداء وشرقَي دَرعا وحَماة)، خلافاتٌ تعود جذورها إلى العَهد العثماني وأساسها التَّنافُس على المَراعي ومَصادر المياه؛ وقد تمكَّن الإسرائيليون من تحويلها من مجرَّد خلافاتٍ على الكلأ والمياه إلى صِراعٍ مذهبيٍّ «بين دروز وسُنّة».

استغلَّت أجهزةُ المخابرات الإسرائيليَّة المفاهيمِ القبليَّةِ السَّائدةِ لدى العشائر العربيَّة ودروز السويداء لإثارة الفتنة بينهما، خاصَّة وأن بيئتيهما مُحافِظتان مُنغلِقتان متشابهتان من حيث العاداتِ والتَّقاليد، وتحكُمها مشاعرُ التَّضامُن العفوي بين أتباعِ كل منهما، ومبالغةٌ في ربطُ الكرامة بالعنفوان والوجاهة، واعتبار المسَّ بأيِّ فردٍ من المجموعة بمثابةِ تطاولٍ على المكون الاجتماعي بكلِّيَّتِه.

 

بدأ النِّزاعُ بتطاولٍ على بعض عناصِر الأمن التَّابعين للنِّظام في السويداء، تبعه تدخُّلٌ للعشائر لمناصرة قوى النِّظام، إلَّا أن الوضعَ تأزَّمَ بترويج شائعاتٍ بحقِّ الطَّرفين، وتفاقَم على أثر تَعميم مَقاطِعَ فديو مُفبرَكة توحي بارتكاب مَجازر بحق المدنيين وتعرُّضٍ لمَشايخِ أجلَّاء، كل ذلك لجعل الدُّروز يعتقدون أنهم مُستهدفون من النِّظام، ما يدفعُهم إلى طلبِ الحِمايَةِ الإسرائيليَّة.

استغلَّ قادةُ إسرائيل الحادثَ لحضِّ المُقرّبين منهم على رَفضِ طُروحاتِ السُّلطةِ المَركزيَّةِ والمُناداةِ بتَخصيصِ مُحافظةِ السُّويداء بإدارة ذاتيَّةٍ، تُخوَّلُ صلاحِياتٍ استثنائيَّةٍ موسَّعةِ تُمكِّنها من إدارَة شؤون المنطقةِ ذات الغالبيَّةِ الدرزيَّة، وأوحوا في الوقت عينه للعَشائرِ أن جَماعاتِ مُسلَّحةِ دِرزية يتهيَّأون لتَهجير أبناء العشائر من المنطقة تمهيداً لإقامَةِ إمارةٍ درزيَّةٍ خالِصَة. أشعل ضباطُ المُخابراتِ الإسرائيليّون بهذه التَّلفيقاتِ شرارةَ القتال بين الطَّرفين، وأخذوا يؤججون النِّزاع ببَثِّ مَزيدٍ من الشَّائعاتِ وفبركَةِ منشوراتٍ وصُّورِ وفيديوهات ورسائل صوتيَّة تحريضيَّة تدعو للثأر والقِتال، الأمر الذي أدّى إلى ارتِكابِ أفعالٍ شنيعة تخلَّلها مَجازِرُ مُتبادلة، ذهبَ ضحيَّتها عَشراتُ الأبرياءِ من الطَّرفين.

تدعونا الموضوعيَّةُ للإقرار بأن عدمَ الإستِقرارِ في سوريا لا يُردُّ فقط إلى التَّدخلاتِ الإسرائيليَّة، إنما تتحمَّلُ السُّلطةُ الانتِقاليَّةُ مسؤوليَّةً كبرى عنه، لعدمِ استقطابها لمُختلف المُكونات الوطنية، ولعدمِ تفهُّمِها لهواجِسِهم ولعدمِ طمأنتهم على مُستقبلهم كشركاء حقيقيين في الوطن، ولتعامُلِها مع بعضِهم كمُناصرينَ للنِّظام السَّابق، وأخيراً لعدمِ نجاحها في ضبط سُلوكيَّاتِ العناصر العسكريَّةِ والأمنيَّة التابعةِ لها، والتي تحملُ لواء الدين وتتصرَّف على خلافِ مفاهيمِه.

كل تلك الاعتبارات كانت تُنذرُ بانفلات الأمور في سوريا، إلَّا أن أحداً لم يكن يتصوَّر مقدار وقاحةَ قادة إسرائيل المأخوذين بنشوةِ الانتِصاراتِ المُتتاليَة التي حقَّقوها على مِحور المُمانعة، والتي دفعتهم للإعتقاد أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حِلمِهِم في إقامَةِ دولةِ إسرائيل الكبرى، ولا تصورَ سعيهم لإسقاطِ السُّلطَةِ الانتِقاليَّةِ بهذه السُّرعة. إلَّا أن مساعيهم هذه ليست الوحيدة، إذ ثمَّةَ جهاتٌ أخرى، ومنها إيران، سعت أيضاً لسُقوطَ السُّلطَة، لأنه يوفِّرُ لها فرصةً لاستعادة نُفوذِها في سوريا ولو في حدودِ المنطقةِ السَّاحليَّةِ ذاتِ الأكثريَّةِ العلويَّة، التي تؤمنُ لها مَعبراً لإمدادِ حِزبِ الله بحاجاته من السِّلاح.

المملكةُ العربيَّةُ السعوديَّةُ بدورها مُدركة لمَخاطرِ المساعي الإسرائيليَّةِ والإيرانيَّة الراميَة إلى عدمِ تمكين السلطة الانتقاليَّةِ من التقاطِ أنفاسِها تمهيداً لإسقاطها، لذا سارعت إلى احتِضانِها وعملت على تقريب وجهاتِ النَّظر بين رئيسها «أحمد الشرع» والرئيس الأميركي ترامب لضمانِ وحدَةِ سوريا؛ ويَدعمها في هذا الموقفِ كل من تركيَّا ومصر وسائرِ الدُّولِ العَربيَّة، ومن ثم بادرت المملكةُ ومن بعدِها قطر إلى توفير الدَّعم المالي واللوجستي للنِّظامِ الحالي لتَمكينِه من الإمساكِ بزمامِ السُّلطَةِ وإحباطِ المُخطَّطاتِ الانقِلابيَّة.

لم يقتصر التَّدخّل الإسرائيلي على إثارة النزاع بين الدروز والعشائر إنما تسبَّبَ في شرخٍ داخل الصَّف الدرزي، وأضحى الانقسامُ الدرزي بيِّناً، ويحكمه توجُّهين الأول مُتمسِّكٌ بانتمائه العربي ورافضٍ للتَّقسيم وآخرٌ يَنُشدُ التَّعاون مع إسرائيل. أما دروز لبنان لم يبقوا بمعزل عن تلك الانقِسامات؛ وقد تصدَّر الزَّعيم الوطني وليد جنبلاط قائمةَ الدَّاعين إلى التزام دروز سوريا بالشَّراكَةِ الوطنيَّة ورفضِهم للإغراءاتِ الإسرائيليَّة، وفي المُقابل تصدَّرَ شيخُ عقل الطائفة في فلسطين قائمةَ المُنادين بالاحتضان الإسرائيلي، وأوعزوا لبعضِ هواة الأدوار المثيرة للجدل بإعلان النَّفير ورفع نبرَةِ تبرير التَّعاملِ مع إسرائيل نُصرةً لأنسبائهِم في سوريا.

إن تسارُعَ المُستجدَّات وارتِفاع وتيرةِ الأحداث في سوريا تُملي على الجميعِ التَّعقُّل والتَّصرُّف بحِكمَة وفق المصالِح الوطنيَّةِ والقوميَّة، ورفضِ كلِّ أشكال الإصطفافاتِ المذهبيَّة، ونبذِ الخطاباتِ العنصريَّةِ والتَّحركات الغوغائيَّة في الشوارع، بدءاً بما حصل في عاليه وما قابله في طرابلس والبقاع الأوسط. وعلى الجِهات المَعنيَّة مسؤوليَّات جسام، وإن لم يكن لها دور في النِّزاع فلوأدِ الفتنة وتطويق النزاع، تجنُّباً للإنزلاق في أتون الصِّراعات الفئوية، التي تسعى إسرائيل وإيران لجرِّ المِنطقةِ إليها.

وعليه نرى أن جامعة الدُّول العربيَّةِ مدعوة لعقدِ قِمَّةٍ مصغَّرة يشارك فيها رؤساء الدول العربيَّة المجاورة لسوريا، للتأكيد على استقرار سوريا ووحدةِ أراضيها، وتشكيل لجنة للتحرَّك سريعاً لدى المحافل الدَّوليَّة المؤثرة، للضَّغطِ على إسرائيل لوقفِ انتِهاكاتِها وتدخُّلاتِها في الشؤون الداخليَّة السُّوريَّة، ووقفِ اعتِداءاتِها الهمجيَّة على باقي الدول العربيَّة؛ وأن السُّلطةَ الانتقاليَّةَ في سوريا مطالبةٌ بإعادةِ النَّظر بسياساتِها الداخليَّة لبناء الثِّقَةِ مع الشعب، وذلك بالدَّعوة لمؤتمر حوار وطني يخصَّصُ للتَّداولِ بالهواجِسِ التي تراودُ مُختلِفَ المُكونات الوطنيَّة، وإعلانِ وثيقَةٍ وطنيَّة تاريخيَّة، تؤكِّدُ على أن الأقليات هم جزء أساسيٌّ لا يتجزَّأ من الشَّعبِ السُّوري والأمة العربيَّة، وإطلاقِ مبادرةٍ إصلاحيَّةٍ تهدفُ إلى إقامة نظامٍ ديمقراطي تَعدُّدي يكفلُ مُشاركَةَ جميع المُكوِّناتِ الوطنيَّة ويصونُ حُقوق المواطنين على قدر المُساواة، بعيداً عن أيَّةِ أجندات خارجيَّة أو توجُّهاتٍ انفصاليَّة، ومن ثم التَّأكيدُ على أن الحُلول الأمنيَّةَ البَحتَة، غير مُناسبَةٍ لتَكريسِ مُصالَحَةٍ وطنيَّةٍ حقيقيَّةٍ ومُستدامَة؛ وإعادةُ تشكيل الحُكومَةٍ على نحوٍ تتمثلُ فيها جُميع المُكونات الرئيسيَّة ويضمنُ لكافَّة المواطنين العيش الآمن في كنفِ دولةٍ مُستقرَّةٍ ومزدهرة، والمبادرةُ فوراً إلى وضع حدٍّ للتَّصعيد العسكري في الجنوب السوري، ومُقاربةُ النزاعات الداخليَّةِ بطرُقٍ سِلميَّةٍ وديَّة عبر تشكيل لجان مُصالحة من شَخصيات مُحايدة ووازنة محلِّيًّا ووطنيًّا؛ ووضع حدٍّ لمُسلسلاتِ التَّهجير في مُختلِفِ المناطقِ السُّوريَّة.

وأخيراً، نحن في لبنان مَدعوون لوعي مَخاطِر ما يحصل على امتدادِ جغرافيا المِنطقَة، واحتِواء الخِطاباتِ الفئويَّةِ سواء كانت طَّائفيَّة أو مَذهبيَّة أو إثنيَّة، ومطالبون بتَشكيلِ خليَّةِ أزمةٍ سياسيَّة – أمنيَّة لرصدِ المُستجدات على السَّاحتين السوريَّة والإقليميَّة، واتِّخاذ ما يلزم من تدابير لتَحييد لبنان عما يحصلُ في سوريَّة، لعدمِ إفساحٍ المجال لتصديرِ أزمَات المنطقةِ إلى بلدنا، ومنعِ تُسلُّلِ المُسلَّحين أو تَسريب الأسلِحةِ إلى الدَّاخل اللبناني، وأخيراً عدمُ التَّساهُلِ في مُلاحقةِ أيٍّ من المُتورِّطين في أعمالٍ عُنف، أو في إثارةِ نَعراتٍ فئويَّةٍ أو التَّحريضِ عليها أنَّا يكُن موقِعُهُ وصِفتُه وتوجُّهاتُه.