IMLebanon

أين «شيعة لبنان» من صلح الإمام الحسن؟!

 

 

لماذا يتبنّى شيعة لبنان موقف الإمام الحسين في كربلاء نهجاً، ولا يتّخذون من صلح الإمام الحسن مع معاوية سلوكاً؟!

سؤال منطقي، بصرف النّظر عن نوايا السّائلين، يستوجب قراءة موضوعيّة لظروف الحسنين، وهما، باعتقاد الشّيعة، إمامان معصومان، قاما للحرب أم قعدا للصّلح، وكلّ ما يصدر عنهما حجّة على أتباعهما.

ومنعاً للإطالة في بحث تاريخي معقّد ومتشعّب المصادر والتّأويلات، نكتفي بإشارات، متّفق عليها لدى المؤرّخين، يمكن للمهتمّين أن يعودوا إلى المصادر التاريخيّة لمزيد من البحث والتّأمّل.

خلاصة الكلام في صلح الإمام الحسن أنّ معاوية هو من عرض الصّلح عليه، وأرسل له صحيفة بيضاء مختومة بختمه على أن يكتب الحسن فيها ما شاء من شروط لحقن دماء المسلمين.

وضع معاوية الكرة في ملعب الحسن ليختار بين حرب غير مضمونة النّتائج، بل تميل موازين القوى فيها لصالح معاوية لأسباب كثيرة مذكورة في كتب التّاريخ، وبين صلح بشروط لا يرضاها الحسن فقط، بل هو من يمليها.

ومن البديهي أن يرضى الحسن بصلح يحقن الدماء وبشروط تبرئ ذمّته أمام الله والنّاس، بمعزل عن مدى التزام معاوية بها، وهو لم يلتزم، لكنّ الجريرة على من نكث وليس على من وفى.

هذا فيما خصّ جبهة المسلمين الدّاخليّة، أمّا من ناحية السّياسة الخارجيّة، في تلك الفترة، فالحرب الدّاخلية لم تكن في صالح العالم الإسلامي، لأنّ «الرّوم الشّرقيّة» الّتي كانت قد تلقّت ضربات قاسية من المسلمين، كانت تتحيّن الفرصة المناسبة لضربهم ضربة انتقاميّة كبيرة كي تأمن سطوتهم وسلطتهم المتصاعدة على حدودها.

فعندما وصل نبأ اصطفاف جيشي الحسن ومعاوية أحدهما في وجه الآخر إلى قادة الروم، اعتقدوا بأنّ الفرصة ممكنة لتحقيق أهدافهم، ولذلك انطلقوا بجيش جرّار بهدف المبادرة والهجوم في لحظة انشغال المسلمين بالحرب الدّاخليّة فيما بينهم.

وكتب «اليعقوبي» المؤرّخ المعروف: «ورجع معاوية إلى الشّام سنة 41 وبلغه أنّ طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلْق عظيم، فخاف أن يشغله عمّا يحتاج إلى تدبيره وأحكامه، فوجّه إليه (الحسن) فصالحه…».

كانت لمعاوية حساباته الخارجيّة الّتي أملت عليه عرض صلح غير مشروط من قبله للحسن، وكانت للحسن ظروفه الدّاخليّة وحرصه على تمتين شوكة المسلمين، فالتقى الرّجلان على صلح كانت ظروفه الدّاخليّة والخارجيّة مؤاتية، وشروطه مقبولة.

ولو رفض الحسن عرض الصّلح لكان رفضه حجّة دامغة في يد معاوية لانتزاع شرعيّة مطلقة لحكمه وحكمته، لذلك وافق الحسن وخطّ على صحيفة معاوية شروطه، وهذه أبرزها، حسب ما روى «البلاذري» في أنساب الأشراف:

«دفع معاوية إلى الحسن صحيفة بيضاء وقد ختم في أسفلها وقال له: اكتب فيها ما شئت، فكتب الحسن:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، صالحه على:

– أن يسلّم إليه، إلى معاوية، ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين.

– وعلى أنّه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى.

– والنّاس آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم.

– وعلى أن لا يبغي للحسن ابن علي غائلة سرّاً ولا علانيّة، ولا يخيف أحداً من أصحابه.

شهد عبد الله بن الحرث، وعمرو بن سلمة..».

بهذه الشّروط الدّينيّة والسّياسيّة قَبل الحسن الصّلح، فهل تتوافر للشّيعة اليوم من «إسرائيل» شروط صلح الحسن من معاوية؟!

الشّرطان الثّالث والرّابع سياسيّان، وهما محلّ الشّاهد والمقارنة، الّتي يريدها من يسأل عن سبب عدم انتهاج صلح الحسن لحفظ الشّيعة، باعتبار الشّرطين الأوّلين خاصّين بولاية أمر المسلمين بعد معاوية.

فقد تعهّد معاوية بحفظ أمن النّاس وأمانهم على أنفسهم وأرزاقهم وأولادهم، وتعهّد بعدم ملاحقة الحسن ولا أصحابه، لا باغتيال ولا تضييق لا في السّرّ ولا في العلن ولا حتّى بتخويفهم.

فهل تعهّد برّاك للشّيعة في لبنان بما تعهّد معاوية للحسن، ولو كذباً؟

الجواب لا، فـ «توماس برّاك» كان واضحاً وصريحاً عندما قال: «لا ضمانات، عليكم بتسليم سلاحكم ونحن لا نستطيع أن نفرض شيئاً على «إسرائيل» ولا مصلحة لنا بذلك».

يُذكر أنّ «فيليب حبيب» وهو من أصول لبنانيّة أيضاً، قد تعهّد للرّئيس «شفيق الوزّان» بحماية الفلسطينيين بعد تسليم سلاحهم، فكانت مجزرة «صبرا وشاتيلا» بعد أيّام من خروج مقاتلي منظمة التّحرير من لبنان إلى تونس.

برّاك لم يكلّف نفسه عناء الكذب، وحسناً فعل.

فأيّ مقاربة ومقارنة يضعنا أمامها من لم يعلموا من صلح الحسن سوى كلمة «صلح».

لو سار برّاك مسار معاوية لقلنا بمشروعيّة المقارنة، ولكنّه تبنّى موقف «يزيد ابن معاوية» ووضع الشّيعة أمام خيارين لا ثالث لهما: استسلام وخضوع، أو صبر ثمّ مواجهة إذا اقتضى الأمر، يعني السّلّة أو الذّلّة.

جاءنا برّاك بورقة أسوأ من انّفاق 17 أيّار، هو يريد أمن «إسرائيل» ولا يسأل عن أمننا، ولا يضمن لنا انسحاباً من أرضنا ولا وقفاً للاعتداء علينا ولا عودة لأهلنا إلى قراهم، ولا إعادة الإعمار، ولا يضمن سلامة قادة المقاومة ومقاتليها، بل يهدّدنا بالحرب الأهليّة ما لم نمتثل لأوامره، وبإلحاق لبنان بسوريا، فهل هذا عرض صلح أو عرض ذل؟!

وقادة «إسرائيل» يتوعدّون بقتل كلّ من قاتلهم، ويصرّحون بنيّتهم البقاء في الجنوب، بل بتحقيق حلم «إسرائيل الكبرى»، كما صرّح «نتنياهو»، والّتي تشمل كلّ لبنان وعدداً من الدّول العربيّة، أو أجزاء منها.

مع عدوّ كإسرائيل، وراعٍ كأميركا، وشروط كشروط «برّاك» لا مكان للصّلح ولا مجال للسّلام، ولو كان الإمام الحسن بيننا لكان حسينيًّا في مواجهة «إسرائيل» ولاتّخذ كربلاء نموذجاً وعنوانا للصّراع.

واستحضار كربلاء، لا يعني الانتحار، كما يحاول البعض تصويرها، كربلاء تعني التّمسّك بالحقّ في حياة كريمة مهما غلت التّضحيات، وعدم القبول بحياة ذليلة مهما كان الثّمن، وقد قال الحسين: «والله إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظّالمين إلّا برماً»، فلا قيمة لحياة يحكمها مجرمو حرب وتتحكّم بها عصابات منظّمة على شكل كيان عنصريّ توسّعي لا يقيم وزناً لأخلاق ولا لقوانين ولا لشرائع ولا لحدود ولا لخرائط.

أمّا الشّيعة في لبنان فهم حسنيّون حتّى النّخاع في سلوكهم السّياسي مع شركائهم في الوطن: السّلم الأهليّ هاجسهم، والوحدة الوطنيّة هدفهم، ونهائية الكيان رسالتهم، هكذا علّمهم الإمام موسى الصّدر، وعلى هذا يعمل الرّئيس نبيه بري، بصبر وحلم حسنيّ، لا يوفّر فرصة ولا يترك مجالاً لحلّ إلّا ويسعى إليه ويعمل عليه.

ولكن، في عقيدة الشّيعة أيضاً، الحسن أسّس لثورة الحسين، ومهّد له الطّريق بعدما سدّ كلّ ذرائع الخصوم والأعداء، لتكون ثورته محقّة ولا مجال لنقضها.

والرّئيس نبيه برّي يعمل جاهداً وصادقاً لسدّ كلّ الذّرائع، وتجنّب الحرب، وحفظ الشّيعة ولبنان، ليبقى رسالة تعايش واعتدال في مواجهة كيان العنصريّة والإجرام.

أمّا إذا غُلّقت أبواب السّلم، واستنفدت محاولات الحلّ، فتاريخ لبنان الحديث يشهد للأخ الأكبر بصولات المقاومة وجولات الانتفاضة، وهو يتمثّل دائماً بيت «المتنبّي»:

ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا

مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى..